فاعلية التمسـرح عند جواد الاسدي

فاعلية التمسـرح عند جواد الاسدي

د. عقيل مهدي يوسف
لايمكن لمخرج مثل جواد الاسدي ان يرضى عن حلوله الإخراجية المجرّبة ، بل تراه متجدداً في معالجاته الإخراجية ، وباحثا عن مداخل تاويلية غامضة مثل الأحلام .

في عرض ( أرامل على البسكليت ) يحفر في عوالم ” لوركا” ونسوته ولكن بتحويل الاتجاه ، وإلغاء مرجعية النص الأولى ،

ليكتب علامات جديدة لمدونه كتابية مغايرة ولولا نساء الساكسفون لآمحّت بالكامل فضاءات برنارد البا ، لكنها أوصلت الخطاب الى مدى معلوم ، فنحن نجد الوظيفة نفسها ، في طغيان ألام وهي تخنق حرية بناتها بجدران ” الجيتو ” المنزلي .

وهي بدلا من ان تكون اما ، باتت الخالة ، لكنها لاتصدر عن ام طاغية وحديدية ، بل عن خالة ( مثلتها الفنانة كارول عبود ) يلتمس فيها الصرامة ، وتستشعر الحرص أيضا لأنها امرأة أخذت مكان أختها ماري روز الممثلة ، صعبة المراس ، التي توفيت لتترك بعهدتها امها ، وابنتها ماريا ( مثلتها الفنانة نادين جمعة ) اما شخصية الجدّة فقد مثلها الفنان ( نضال سيجري ) في المشهد الاستهلالي تخرج هاتيك النسوة وهن يقدن دراجات هوائية ، بحركات لولبية ، وبملابس شفافة صممت بطريقة جذابة متجانسة ألوانها الحارة والباردة مع فضاء الإضاءة ، وفيها لمسات أنثوية تواصل بث أمواجها الى المتلقي برهافة وجمال.
انطلق المخرج من أسس نظرية في خطته الإخراجية مفتوحة في اقتراحها لخصائص العرض ، فلا ترى بيتاً ، بل خشبة مسرح مفتوحة ، مقفلة في خلفيتها حيث البوابات المنزلقة والحمامات والأفق ، وفي المقدمة طاولة سوداء تمتد بطولها المستعرض أمام الجمهور ، وتصبح بالتالي منصة متحركة ، يحركها الممثلون لتكون رأسية – ايضا- ويلعب الجميع فوقها ، مشاهدهم التي اصطبغت بالايروتيكية الصريحة والمباشرة الفتاة ماريا ، بجسدها الأهيف ووجها الموشوم بقناع زاهي الألوان ، وتمتد الزخارف اللونية حتى العنق وما تحته ، وكأنك ترى الى فراشة بشرية ، تجتافها حرائق روحها المهيضة ، ليتناوب عليها الطبيب النفسي ، ليعالج كدماتها غير المرئية ، والفنان الذي يرسم جسدها الخارجي ، يذهب الى غفوته الأبدية ، ليترك معها الأغصان اليابسة التي تتفتت متساقطة وكأن سيقانها الملتاعة ، تذروها برياح الكبت والحرمان والقهر .
تصنع الممثلة نادين اطاراً مرئياً ، بأنساق متغيرة مع الممثلة كارول ، اذ تتنوع أشكال العلاقة ، وتتداخل لتصل الى صنع معاني جديدة تضفي على تقنية العرض ألقاً خاصاً ، لاسيما بحضور الممثل نضال ، الذي يعيد تشكيل اللعبة بقواعد مبتكرة من التنكر رجل يمثل امرأة عجوز متصابية ، وصائدة رجال أرامل !! لمسة من رقة الأداء ، وانثويته يتسامى فيها بموهبته التمثيلية ، فيضع أمام المتلقي كينونتين اثنتين ، امرأة عجوز تتصابى ، ورجل يحجب فحولته ويختلق أنثى تسعى من أعماقه ، بفضائحها الفكهة ، لكنها مأساوية بأثرها ووقعها فالموت يترصد أمانيها ، ويحوك أحابيله لاستدراجها الى مصيرها العدمي ، صيغت المشاهد تارة بتعددية صوتية وتارة أخرى بانفرادية ، تأخذ بزمامها الفتاتان كتب الحوار بتداخل الملفوظ الأدبي مع النسق الدرامي على شكل تراكيب وإيقاعات شعرية ، موحية ولم يبق على ماهيات الأفكار التجريدية في النص بل اسند لها وظائف من كلام تداولي ، وأفعال فيزيائية ملموسة ، لكل شخصية على حدة ، وهذا بالطبع ما تقتضيه فاعلية التمسرح Theatrlity ليعزز من القوة البصرية والسمعية التي تشد المشهد المسرحي وعناصره بإطار واحد مشترك مع الجمهور .
وليترك بهذا الجمهور فسحة تخيلية ، تقوم على فعل اختياري لتأويل سياق الموضوع الخاص بالنسوة الشقيات ، واللواتي يحملن بمعجزة الرجل الذي جف ينبوعه في أكوانهن الحسيرة ، والغرثى الى نثيث مطر الفحولة .
كائنات برسم الانتظار ، يلذن بأجسادهن ، يتمردن على السكون او ينكفئن في غرفهن خائفات من غدر الشارع ، وقسوة الحياة .
كل ممثل وممثلة في هذا العرض أصاب هدف شخصيته بطريقة أدائية متماسكة ، فأنت ترى أمامك ممثلا محترفاً ، ماهراً ، عارفاً بأسرار مهنته ، مبهراً في ملبسه وباروكاته وبوضعياته الجسدية ، وإيماءاته ووقفاته وحركاته التكوينية ، وتنغيمات صوته ، وتعبيرات وجهه ، كلها تندغم بجسد ، شكل مادة إبداعية ، تنساب منها بموسيقية ، مشاعر الدور وعواطفه ، وهي مقرونة بأفعال درامية مرئية ومسموعة ومحسوسة على الخشبة وان كنت تحسبها طيفا ، او هالة من ضوء ، او أفكار ، واشراقات روح ، هذه الصورة المسرحية ركبّت من نفوس الممثلات ومن أجسادهن وتحركت بقوة دفع داخلية ، قادها المخرج الى مايقلقه هو شخصياً ، كما يقلقنا نحن المشاهدون ، هو السؤال أمام الموت والتفكير بالعدم ، وهو يتربص بنا ، ويدركنا ، في لحظة ثقيلة وقاسية ، هنا تنبع روح تراجيديا هذا العرض الذي انفتح على الكوميديا ، باشراقة الممثلات وكذلك الممثل الذي برز ثقله الإبداعي ليصنع دوراً مرتجلاً ، وهو يخون نصّه الذكوري ! وسبب آخر يعضد من منجزه الادائي ، انه ابتكر – أيضا- اطاراً أسلوبياً وفنياً ولم يلتصق مثلاً، بالغرائزية الصريحة في الحياة اليومية ، بل إعادة صنع سياقها في فضاء فني متكامل. اللحن والموسيقى التي وظفها رعـد خلف ، عمقت بدورها من الأسلوب الجمالي للمخرج الاسدي ، باحتدامها ، ومباغتتها للقاعة ، وانتقالها من الضربات والإيقاعات الصاخبة ، الى البوح الميلودي الرقيق الذي يتعادل وكفة الرقة الانوثية وزخارفها المرهفة وهي تنوء تحت ضغط القبح الاجتماعي ، والتقاليد العقيمة ، التي تختنق الحياة ، بحثاً عن فضيلة مزعومة ، وشرف لامحل له في هذا السياق . حقق العرض أهدافه الاجتماعية بأسلوب جمالي عرف به المخرج جواد الاسدي ، بعيداً عن الأيدلوجيات وحققت الممثلة نادين مساحة مرئية لدورها المتألق بروح متدفقة ، وتكامل هذا الأداء مع الشطر الأنثوي الثاني كارولين وهي من فرط عذوبتها خلقت شخصية محبوبة وخفيفة الظل رغم ما يتطلبه الدور من تسلط ثقيل الوطأة وسبب هذا الظفر بروح العرض المشرقة ، هو إجادة تداول المعنى الجمالي ، بتقنيات اداء الممثل ، بوصفه العنصر المركزي للعرض ، حين ميزّ حب الجمهور لفنية الممثل ومهاراته من شجبه للدور الشرير السلبي الذي يلعبه الممثل ،ويوصل دلالاته .
طرس كتابي أبدع فيه الاسدي ، بحفرياته بزوايا النص ، ومداخل العرض ، لعله يأتينا بجديد آخر وهو يتفرس بالايدولوجيا نفسها ، ولكن لالكي يعيد إنتاجها سافرة ، بل لكي يحّولها من نسق يقع خارج حضارة المسرح ، الى كون جمالي ، يدور في مجراته الفنية بحرية واختيار مسؤول ، ينتقل فيه من عالم الجبر الى عالم المخيلة المفتوحة ، والفرادة الإبداعية ، كما فعل في عرضه الجميل هذا .