تيري إيغلتون:  الأيديولوجيا أفسدت الجامعات

تيري إيغلتون: الأيديولوجيا أفسدت الجامعات

لطفية الدليمي
ظلت مفردة “الثقافة” واحدة من أكثر المفردات إشكالية على صعيد المفهوم والتطبيقات، كما ظلت الدراسات الثقافية ميدان تجاذب لم يخفُت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية حين باتت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة.

من المساهمات المهمة والحديثة في تفكيك مفهوم “الثقافة” هو الكتاب المنشور عن جامعة ييل الأميركية العريقة للكاتب البريطاني الذائع الصيت تيري إيغلتون، وهو ناقد ومنظر أدبي وباحث في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة، بعنوان “الثقافة”.
يعد هذا الكتاب بحثا تأريخيا – سوسيولوجيا – أنثروبولوجيا مركبا في مفهوم الثقافة، وهو مكتوب بطريقة إيغلتون المميزة التي يركزُ فيها على ثيمات محددة في سياق الموضوعة الكبرى التي يتناولها، ومعروفٌ عن إيغلتون نفوره من الصلابة الأكاديمية السائدة وميله لاعتماد العبارات القصيرة المتلاحقة التي هي أقربُ إلى تأكيد مواضعات راسخة؛ وبهذا يكون إيغلتون باحثا مريحا للقارئ الذي يسعى للحصول على فكرة شاملة وسريعة وجيدة التناول عن موضوعة البحث، وإذا ما كان الحديث يتناول موضوعة معقدة وكثيرة الاشتباكات مع الحقول المعرفية الأخرى مثل فكرة “الثقافة” فإن كتاب إيغلتون هذا يعد موجزا مناسبا ومدخلا لقراءات شاملة أكثر تخصصا.

الثقافة بمنظار إيغلتون
ثمة الكثير في أخبار أيامنا مما يشيرُ للثقافة: صراعات الثقافة، حروب الثقافة، الهوية الثقافية، النقاء الثقافي، وغيرها. ويبدو معنى “الثقافة” مفهوما متمددا ومطاطا ويمكن تطبيقه تقريبا على أي موقف أو تعبير أو جهد إنساني.
تيري إيغلتون المنظر الثقافي والناقد والفيلسوف البريطاني الإشكالي قدّم من جانبه محاولات مثيرة لتعريف الثقافة، أو في أقل تقدير المساعدة في تحديد معاييرها وعناصرها ذات الدلالة المميزة.
يتناول إيغلتون في كتابه موضوعات الثقافة الجمعية والكيفية التي بات بها التمييز بين الثقافة والمجتمع في السنوات الأخيرة غير محدد الخصائص وعلى نحو لا يفتأ يتزايد يوما بعد آخر.
يكتب إيغلتون بهذا الشأن: “استحالت الثقافة وعلى نحو متزايد مسألة صورة، وشكل أيقوني، ومشهديات مصممة لإمتاع الجموع…”، ثم يضيف قائلا “غدا كل من التجارة والإنتاج يعتمدان أكثر فأكثر على التغليف، والتصميم، ومنح العلامات التجارية ذات الشهرة العالمية، والإعلان، والعلاقات العامة؛ أما العلاقات الشخصية فصارت موضوعا خاضعا لوساطة النصوص والصور التقنية”.
انتقادات إيغلتون للثقافة المعاصرة قد تكون لاذعة أحيانا؛ لكنها ليست أبدا ساخرة أو باعثة على تشويش القارئ. يكتب إيغلتون في هذا الشأن “الثقافة يمكن أن تكون نموذجا للكيفية التي نعيش بها، أو شكلا من هيكلة الذات أو تحقيق الذات، أو ثمرة حزمة من أشكال الحياة المعيشة لجماعة كبرى من الناس، وقد تكون الثقافة نقدا للحاضر أو صورة للمستقبل”.
معنى "الثقافة" يبدو مفهوما متمددا ومطاطا ويمكن تطبيقه تقريبا على أي موقف أو تعبير أو جهد إنساني
معنى "الثقافة" يبدو مفهوما متمددا ومطاطا ويمكن تطبيقه تقريبا على أي موقف أو تعبير أو جهد إنساني
يسائل إيغلتون المعاني المختلفة التي يثيرها مصطلح “الثقافة”، ثم يمضي في استكشاف بعض الفروقات الجوهرية بين فكرة الثقافة ومفهوم الحضارة، وبعدها يواصل مساءلة المبدأ ما بعد الحداثي الخاص بالنزعة الثقافية (المثاقفة)؛ لأن الثقافة كانت على الدوام أمرا أساسيا للوجود الإنساني، وفي سياق فعل ذلك يعمد المؤلف لتقديم المفاهيم الخاصة بالتنوع، التعدد، الهُجنة (التهجين)، الشمول (التضمين) في إطار نقدي بعيد عن النقودات المعيارية المتداولة، كما يتناول الكتاب كذلك الموضوعة الخاصة بالمعتقدات السائدة في حقل النسبية الثقافية.
يمكن رؤية الثقافة باعتبارها شكلا من أشكال اللاوعي الاجتماعي، ومع الحفاظ على هذه الفكرة حاضرة في العقل يتناول المؤلف أعمال إثنيْن من أكابر الداعين لهذه الفكرة: الفيلسوف السياسي إدموند برك، المؤلف الذي تُعرفُ كتاباته على نطاق واسع؛ غير أن تأثيره في صياغة فكرة الثقافة لم يلق صداه المستحق لدى الأوساط العامة، أما الداعية الثاني فهو الفيلسوف الألماني جوهان غوتفريد هيردر، الذي لم يتماش فكره الفريد في أصالته بشأن الموضوعات الثقافية مع “الموضات” الثقافية السائدة؛ لذا لم يلق التقدير الذي يستحقه بجدارة.
ويورد المؤلف إلى جانب هذا بعض التعليقات بشأن كون الثقافة نمطا من اللاوعي الجمعي في أعمال تي. إس. إليوت ورايموند وليامز، معتبرا أن هذين المفكرين اللذين لطالما كانت الثقافة لديهما مفهوما حيويا بدرجة فائقة ولكنْ من موقفين سياسيين متعارضيْن على نحو حاد.
ثمة فصلٌ في الكتاب عن أوسكار وايلد يقدم بعض آيات الإجلال والتوقير لهذا الناقد الثقافي الأكثر جسارة والمُجمع على قدراته العظيمة بين النقاد الثقافيين، ويوفر هذا الفصل تلخيصا لبعض المفاهيم المُعدّلة للثقافة والتي تمت مساءلتها من قبلُ، ثم ينعطف الكتاب لمساءلة الأسباب الكامنة وراء تعاظم فكرة الثقافة في عصرنا الذي يُنظرُ إليه غالبا بأنه عصرٌ حديثٌ متواضع الثقافة، ويتناول بهذا الشأن طائفة من تلك الأسباب، وأهمها من الناحية الجوهرية: فكرة الثقافة باعتبارها نقدا جماليا ومثاليا (يوتوبيا) للرأسمالية الصناعية، نشوء النزعات القومية الثورية، السياسات الخاصة بالتعددية الثقافية والهوية، البحث عن بديل للدين، انبثاق ما بات يسمى صناعة الثقافة.

الجامعة والبروليتاريا الجديدة
يورد إيغلتون في الفصل الأخير المعنون “غطرسة الثقافة” ملاحظات مهمة وخطيرة بشأن الجامعات – باعتبارها حاضنات ثقافية كلاسيكية؛ فقد صار التقليد الجامعي الممتد لقرون بشأن كون الجامعات مراكز للنقد الفكري وصناعة المعرفة عرضة للتدمير الحالي الممنهج من خلال تحويلها إلى شركات شبه رأسمالية مزيفة، تحت سطوة الأيديولوجيا الإدارية الجاهلة شديدة التغول والقسوة، وراحت ميادين التأمل النقدي والمؤسسات الأكاديمية تُختزلُ على نحو مضطرد إلى عناصر في السوق الرأسمالية تُضافُ إلى المحلات التجارية ومراكز بيع الأطعمة السريعة.
ووُضعت تلك الميادين والمؤسسات – في معظمها- بأيدي نخبة تكنوقراطية لاتعني القيم بالنسبة لها سوى موضوعة مماثلة للتعامل مع سوق العقارات، وصار الشغيل (البروليتاري) الجديد من الأكاديميين المنتمين لعالم الفكر يتم تقييمه من خلال الكيفية التي يمكن لمحاضراته حول أفلاطون أو كوبرنيكوس -مثلا- أن تساهم في دعم الاقتصاد وتعزيز جني المال؛ أما الخريجون الجامعيون الجدد غير الحاصلين على فرصة عمل في الحقول الفكرية فيشكلون بنظر التكنوقراط الرأسماليين شكلا من الإنتلجنسيا الرثة.