قراءة في كتاب (الثقافة)

قراءة في كتاب (الثقافة)

كه يلان محمد
ما يكرّسُ خصوصية أيّ مجال هو إنشاء معجمهِ الخاص من خلال المفردات والعبارات التي تخدمُ غرضه وقد تختلفُ دلالةُ المفردةِ وفقاً للمجال والسياق الذي تتداولُ فيه. غير أنّ ثمة ألفاظاً لا تغيبُ عن الحقول المعرفية بقطع النظر عن تباينِ مناهجها، ولا يُمكنُ أن تجدَ لها بديلاً.
بالطبع، الثقافة من بين أكثر المفردات شيوعاً في مُختلفِ المستويات وتغلغلاً في الأحاديث اليومية كما تُستخدمُ في الوسائط الأكاديمية والنخبوية.

التمدّد اللفظي
من الواضح أنّ هذا التمدّد اللفظي ليس إلّا أحد أوجه مفهوم الثقافة المُتعالق مع كل أشكال الحياة بِتَشَعُّباتها. أمر يستدعي الحفر في الجذور ومتابعةِ تطوّر مفهوم الثقافة وما تعنيه من الدلالات عبر التاريخ والإختلاف بينه وبين الحضارة. إذ يرى الشاعر البريطاني ت.إس. إليوت بأنّ الثقافة هي المعطى الذي يجعل الحياة مستحقة للعيش، وهناك مَن لا يفصلُ بين مفهومي الحضارة والثقافة بوصفهما تعبيراً عن المحتوى المعرفي والمُعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والعادات، كما يوجدُ طرح آخر يضعُ مفهوم الثقافة في إطار القيَم المعنوية ويقرنُ لفظ الحضارة بالجانب المادي، ما يعني وجود رؤى غير متوافقة فيما يتعلّقُ بهذا الموضوع. وبدورهِ، أراد الكاتب البريطاني الشهير تيري إيغلتون تتبّع أساس تلك الإشكاليةِ ودراسة مفردة الثقافة ودلالاتها كما وردت في مؤلّفات نخبة من المفكّرين في كتابه المعنون «الثقافة» الصادر حديثاً من دار المدى بترجمة الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي.
بعد مقدمة المترجمة التي تشير إلى مؤلفات صاحب «حارس البوابة» وإشتغاله في المجال الأكاديمي في الجامعات البريطانية، وقد ذاعت شهرته بوصفه أكاديمياً ماركسياً، موضحةً أنَّ كتابه «ما بعد النظرية» يُمثِّلُ إنعطافةً ثوريّةً في فكر هذا اليساري العتيد. تعقبُ ذلك بتقديم عن نشأة المؤلف وأهمية هذا الكتاب، لافتةً إلى أنّ أسلوب إيغلتون مُطعّم بالدعابة والسُخرية. وفضّلت لطفية الدليمي أن ترفق الكتاب بمقابلة مع مؤلّفه، حيث يعلّقُ الأخيرُ في إطار الحوار على الأفكار المُنبسطة على مساحة إصداره الجديد. وأكثر ما يُلفت النظر في الحوار هو كلام إيغلتون حول عدم الإلتفات إلى الجوانب السلبية للثقافة، ذاكراً أنَّ الثقافة قد تكون أمراً أشدَّ خطورةً، ومع ذلك لا يزال مَن يختزل الثقافة على إبداعات موسيقية وفنية وأدبية.

التعقيد
على رغم خروج مفردة الثقافة من الحلقات الأكاديمية وإلتحامها مع القنوات المُختلفة، لكن هذا لا يعنى أنَّ مفردة الثقافة أصبحت مدلولاتها مفهومةً وأنَّ ما تؤشّر إليه واضح بالنسبة للجميع بدون لبس، ولايتحملُ وجهات النظر المُتعددة.
تأتي الثقافة حسب رأي إيغلتون في المرتبة الثانية أو الثالثة ضمن المفردات الأكثر تعقيداً في اللغة الإنكليزية، والحال هذه تذكّرُ الكاتبُ أنَّ هناك أربعة معانٍ رئيسة يصحُّ وضعُها شرحاً لمفردة الثقافة. تراكماً للعمل الذهني والفني أو الصيرورة التي يحصلُ بها الإرتقاءُ الروحي والذهني، أو القيَم والعادات والمعتقدات والشعائر الرمزية. أخيراً تعني الثقافة الطريقة الكليّة المُعتمدة في الحياة. بناءً على ما يُفهمُ من الجملة الأخيرة، فإنَّ الثقافة تضمُ الشعر والموسيقى إلى جانب صنف الطعام ونوع الرياضة وحتى شكل الدين والطقوسات التي يمارسها اللابيّون. وقد تجدُ مشتركات بين هؤلاء وغيرهم من الشعوب الأخرى في الملبس والمأكل، وذلك يُبيّن توسيع دلالة مفهوم الثقافة فيما يتعلّق بالشقّ الحياتي. ويُضيف إيغلتون حول هذا الموضوع زيادةً، إذ يفرّق بين الثقافة كطريقة حياة على هذا المستوى، تعني الثقافة تكرار ما عمله أسلافك والتمسّك بما إعتنقوا به، أمّا على المستوى الفنّي فتتّخذُ الثقافة معنىً طليعياً. وهذا الفصل بين المستويين يتّفق مع ما ذهب إليه وليامز من التمييز بين الثقافة لدى الطبقة العاملة والثقافة كإهتمام فنّي.
في المُقابل، يرى الفيلسوف الألماني جوهان غوتفريد هيردر مفهوم الثقافة في سياق أكثر شمولية بحيثُ تنفتحُ على التجارة والصناعة والتقنية بقدر ما تعبّرُ عن العواطف والقيَم. ومن خلال ما يعرضه مؤلفُ «النقد والأيدولوجيا» بشأنِ مفهومي الحضارة والثقافة، ندركُ بأنَّ كلّ ما يخصُّ مسألة التقاليد والقيَم والدين تُعبّرُ عنه مفردة الثقافة، بينما تتجلّى الحضارة في المظهر المادي للمجتمع. ونحنُ نقولُ ذلك، نفترض وجود سؤال لدى المُتابع وهو أين الثقافة من عالمٍ تداهمه الماديات والسلعُ وتسوده سطوة المظاهر على حد تعبير لينين؟ يُجيبُ إيغلتون بأنَّ الحضارة الصناعية أوجدت بيئة مؤاتية لولادة مفهوم الثقافة، ولولا تغوّل الماديات لما أصبحت الثقافةُ واسعة الإستخدام. مُضيفاً، كلّما جنحت الحضارةُ في طابعها المادي أكثر كانت الثقافة تتبدّى أشدَّ رغبةً للتسامي عن الدينوية. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الثقافة مُفردة وهي مشتقّة من الطبيعة. في وقت تشيرُ الحضارة إلى عالم مصنوع مشوّه للطبيعة.

صرعة فكرية
يتناول تيرى إيغلتون في فصل آخر من كتابه موضوع التعدّدية الثقافية بوصفها سمةً بارزةً لمرحلة ما يسمّى بمجتمعات ما بعد الحداثةِ الهجينة، نتيجة هيمنة الرأسمالية التي تعتمدُ على نمط إنتاجي غير مُتجانس. لا يُنكر صاحب الكتاب أهمية التعدّدية، بل هي جديرة بالرعاية والتعهّد إلى أن تُصبحَ أمراً بديهياً، لكن علينا الإقرار في الوقت نفسه بأن ليس كلّ أشكال التجانس أمر مُستهجنُ يجبُ محاربته ونعته بالأُصولية والتطرّف، من الأفضل أن يكون هناك إجماع على إدانة وشجب الإساءة الجنسية للأطفال. بل البشرية كما يرى إيغلتون أحوج ما تكون إلى الإجماع عندما تحدقُ بها الظواهر الخطيرة. ولا وجود لفضيلة ذلك التنوّع الذي يبرّر غرق قوارب المُهاجرين على السواحل بإسم حرية الرأي. فبرأي إيغلتون أنَّ صرعة ما بعد الحداثة تُحوّل الكائنات البشرية إلى مجرّد مخلوقات تقتاتُ على الإختلاف والتمايز، وأنَّ أيَّ إشارة إلى الخصائص الإنسانية المشتركة تثير حساسية وتُعتبرُ كبحاً جامحاً لإختلافات ثقافية. بمعنى أنَّ الإعتقاد بوجود أسس عالمية لوجود إنساني وهمٌ محض. عطفاً على كل ما سبق، فإنَّ تيري إيغلتون يميّزُ بين الثقافة والأيدولوجيا، مع الانتباه إلى عدم الوقوع في خطأ الخلط بين مفهومين، لأنَّ الثقافة تُمثّل القيَم والعادات والتقاليد، فيما الأيدولوجيا هي محاولة لتحنيط الممارسات الرمزية والقيَم في مرحلة تاريخية معيّنة. في مفاصل كتابه، يستندُ المؤلّفُ إلى أطروحات الفلاسفة والمفكّرين السياسيين، منهم إدموند برك الذي عارض سياسة بلاده البريطانية في الهند، وفريدريك شيللر وأوسكار وايلد ولدفيغ فتغيشتاين وكارل ماركس وكلودليفي شتراوس الذي رأى ضرورة تشرّب ثقافة أيّ فرد من ثقافات أخرى. ويختمُ إيغلتون دراسته بنقد الرأسمالية وإظهار الوسائل التي إعتمدتها لتدجين الثقافة وقتل النزعة النقدية، وذلك بدلا من أن تكونَ الثقافةُ أداةً للجم السلطة صارت متورّطةً في تضخيمها وتوفر لها عوامل السيطرة.