سارتر وازمة المثقف العراقي

سارتر وازمة المثقف العراقي

علي حسين

لا أعرف عدد المرات التي قرأت فيها مؤلفات جان بول سارتر ، قارئاً ومتمعناً في الدروس والعبر التي تقدمها لنا مؤلفات هذا الكاتب الذي كان يمنّي النفس في أن يصبح شاعراً، فالأدب اكثر خلوداً من الفلسفة، هكذا قال ذات يوم لسيمون دي بوفوار، وكنت دائما اسأل نفسي من هو سارتر؟

هل هو المفكر الملتزم ام البوهيمي الذي قضى حياته يتنقل من مقهى الى مقهى، ام المناضل السياسي الذي دافع بشراسة عن الجزائر وكوبا وفيتنام؟ هل هو الفيلسوف الذي كتب اصعب المؤلفات واعقدها " الكينونة والعدم " ام كاتب المسرحيات التي حظيت بإقبال جماهيري كبير؟.

أتذكر سارتر وانا أرى بيانات بعض المنظمات المعنية بالثقافة وهي تُمني النفس أن يبادر وزير الثقافة الجديد بإعادة منحة المثقفين التي كان يمنحها المالكي للادباء والفنانيين ، والتي لاتتجاوز قيمتها المئة الف دينار شهريا ، في الوقت الذي نهب فيه المالكي واحبابه واقاربه ما يقارب النصف ترليون دولار عدا ونقدا . في الوقت الذي تسعى الاحزاب الحاكمة إلى اشاعة ثقافة الجهل والخراب ، يسعى الذين يَحسبون انفسهم على خانة الثقافة الى مغازلة المسؤول من اجل الحصول على عطاياه ، وان كانت منحة ، اوظيفة ، اسفرة ، اوحتى ليمة دسمة .. لايهم ان الثقافة تُعامل كانها رجس من عمل الشيطان ، المهم التقرب من المسؤول والتمتع بعطاياه .

ولان الحديث اخذنا في البداية عن جان بول سارتر ، فاني اتذكر الواقعة الشهيرة التي رفض فيها سارتر جائزة نوبل ، ففي الثاني والعشرين من تشرين الأول من العام 1964، كان الفيلسوف الفرنسي يتناول الغداء في أحد المطاعم حين اتصلت به صحفية في وكالة "فرانس برس" لإبلاغه أنه نال جائزة "نوبل". فأجابها سارتر "أنا أرفض الجائزة، وسأحتفظ بأسبابي وراء ذلك لأقولها للصحافة " وقد اثار قرار الرفض ضجة كبيرة ، إلا ان اللجنة المانحة لم تهتم للامر وبقى سارتر على قائمة الفائزين بنوبل رغم رفضه الجائزة، ورفضه استلام المبلغ المخصص للجائزة وكانت قيمته انذاك تعادل 400 الف دولار ..وقد صرح سارتر فيما بعد انه رفض الجائزة لانه بنى كل أفكاره على نقد كل أشكال المؤسسات، التي كان يصفها بأنها مميتة .

بعد رفض سارتر للجائزة كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز مقالا بعنوان " سارتر ..الجائزة " نشرت ترجمته العربية مجلة العرب والفكر العالمي التي كان يصدرها مطاع صفدي ، حيث يعترف دولوز بفضل سارتر على جيل كامل من المثقفين في اوربا ، ويضع في المقال مقارنة بين البير كامو وسارتر ، يؤكد دولوز ان كامو حصل على نوبل عام 1957 من غير ان يرفضها رغم انه ينتسب الى طائفة المثقفين " الثوريين " او كما يصفهم دولوز بـ " الملعونين " ، ونجد دولوز يذهب إلى حد التحسر على صاحب الغريب الذي ظل حسب تعبيره يعيش ازدواجية :" اما كامو ، يا للحسرة ! فكان تارة نزوعا متكبرا الى الفضيلة ، وتارة عبثا من الدرجة الثانية " ، ويصر دولوز ان كل جديد كان يمر من سارتر فقد كان ذلك " المثقف الذي سيتمكن من تغيير وضعية المثقف " .

وفــــي اجمل عبارات المقال يكتب دولوز :" كان سارتر مجرى هواء نقي .لم يكن سارتر نموذجا او من منحى فكريا او مثالاً يحتذى .كان نسمة هواء ..كان مفكرا حرا ، يملك طريقة شرسة في طرح المشاكل " .

حاول سارتر في كتابه "دفاعاً عن المثقفين"، الذي صدر عام 1965، أن يعطي تعريفاً للمثقف:" أن ما يجعل من فرد ما مثقفاً هو قدرته على تجاوز الحقل الضيق لاختصاصه.، المثقف هو الشخص الذي يتدخل في ما لا يعنيه، ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة " .

عام 1968 كان سارتر في الصفوف الاولى من تظاهرات الشباب في فرنسا ضد حكومة الجنرال ديغول ، وحين امتلأت صحف فرنسا بصور سارتر يوزع المنشورات ضد نظام الحكم ، طالب عدد من القادة الأمنيين والوزراء بسجنه فردَّ عليهم ديغول بعبارته الشهيرة "لا أحد يسجن فولتير، هل يمكن ان نضع فرنسا في السجن؟"

نتذكر سارتر ونرى كيف يصنع المثقف مصير بلاده ، فيما نحن نترجى المسؤول ان يمنحنا الفتات من عطاياه ، بعدها لايهم ان تعيش الناس في الجهل والتخلّف والطائفية . .متى يصبح المثقف العراقي كل الناس؟ هذا هو السؤال الذي يجب ان نطرحه ، وليس سؤال من هو وزير الثقافة .

الصورة لسارتر وهو يشارك بتظاهرات الطلبة عام 1968 حيث يلقي ميشيل فوكو البيان فيما بيدو جيل دولوز في وسط الصورة .