ذكرياتي مع المخزومي

ذكرياتي مع المخزومي

.د.عناد غزوان إسماعيل
كاتب وناقد راحل
في أحد أيام عام 1955 وفي احد أروقة دار المعلمين العالية في بغداد التقيته أول مرة، متأبطاً حقيبته الصغيرة التي لم تفارقه قط وفي بدلته السوداء المتواضعة التي كان يفضلها على غيرها...
وتكرر اللقاء حيث كان من رواد ندوات (جماعة الإنشاء الأدبي) التي كان يرعاها في الدار، أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر، رعاية قل نظيرها ومثيلها عند غيره، وقد جمعت بعض مواهب طلبة الدار من قسم اللغة العربية، في الشعر والقصة والإنشاء والخطابة..

أقول التقيته عامئذ وجهاً هادئاً، سمحاً ومتواضعاً، يطفح البشر على محياه، موحياً بوقار العالم الجليل، وحياء الإنسان النبيل، وطلعة المثقف الأصيل، عينان شديدتا العمق، تجد الشمس فيها مرآتها... ومحياً تأتلف فيه الآمال... وتتطلع إليه بشغف وحب وحياء.. حديثه حديث عارٍ من الثرثرة، غني بالرأي ودماثة الخلق... وعرفت وأدركت فيما بعد إنني أمام نحوي بارع ولغوي لامع وأستاذ جليل ذي هيبة، هي هيبة العلم، وذي طموح هو طموح المبدع وذي جلالٍ هو جلال الحقيقة العلمية والروح الأكاديمي المحض...
وعرفت انه كتب عن الخليل بن احمد الفراهيدي، أعماله ومنهجه، رسالة لنيل شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة بتقدير عالٍ، بإشراف أستاذه الذائع الصيت المرحوم إبراهيم مصطفى صاحب (إحياء النحو) وأستاذه المرحوم أمين الخولي، أبي الأمناء والمجدد في فن القول والبلاغة.. أقول كتب عن الخليل بن احمد الفراهيدي الذي كان يرى فيه شخصية من المع الشخصيات العلمية وأقواها أثراً في تاريخ العراق العربي الإسلامي، وأغزرها نتاجاً، وأدقها فكراً، وأعمقها عقلاً، وأكثرها تجرداً لطلب العلم والإبداع في جوانبه المختلفة وموضوعاته المتعددة...شخصية انصرفت إلى تثبيت قواعد راسخة لحياة امتنا العقلية والى الإبداع في كل ما كانت تصبو إليه حياة فتية، هي حياة امتنا الصاعدة، المتطلعة إلى الإسهام في النهوض بالحضارة الإنسانية ودفعها إلى طريق تطـــورها وازدهارها... كان على رأس الطليعة التي مهدت للإنسانية طريق التطور العظيم... هكذا كان يرى أستاذنا المرحوم الدكتور مهدي المخـــزومي، صاحبه الخليل الفراهيدي وقد كان يرى نفسه فيه متواضعاً، وإباءً، وعلماً وإبداعاً، وحباً وسخاءً، وسعياً مخلصاً نحو الحقيقة وإحياءً أصيلاً للنحو العربي الذي وجد في نفس المخزومي مستقره ومنتهاه، علماً يقوم اللسان ويفصح عن البيان، إذ حاول في دراسته وتدريسه، النظر إليه أسلوباً عربياً رائعاً، وصافياً بعيداً عن الشوائب والتفلسف والعلل، مع اجتهاد علمي أصاب فيه اجـــرين...
وكتب رسالته للدكتوراه عن (مدرسة الكوفة) بإشراف أستاذه النحوي والمحقق الجلـــيل المرحوم مصطفى السقا... وكتب (في النحو العربي نقد وتوجيه) و(الدرس النحوي في بغداد) و(عبقري من البصرة).. وكتب مقالاتٍ وأبحاثاً وتعليقات وتعقيبات كثيرة، كلها تدور حول موضوع تخصصه (النحو العربي واللغة العربية).. وكان في كل ما كتب وألف المهدي المخزومي الذي لا يكـــذب أهله.. رائداً من رواد الدرس الأكاديمي، ومربياً فاضلاً جليلاً... هــــذا هو المخزومي الذي عرفته أستاذاً وصديقاً وأخاً وإنساناً، أقول هذا هو المخزومي (صحو يكاد من الغضارة يمطر).. أقول قلما وجد مجلس نحوي- لغوي أو صف جامعي، أو منتدى أدبي، إلا ارتوى منه، فهو حاضــر فيه متحدثاً أو معلقاً أو صاحب رأي حصيف... فيه يفتخر النحو ويبتهج، وبه تجد النفس في سؤالها مبتغاها دونما تردد، إذ انه يمنح ســـائله دم قلبه وعصارة ذهنه مؤمناً الإيمان كله أن الجواب السليم عهد ووعد يستوجبان الوفاء والحرية لأنهما بعث للحقيقة العلمية وحصن حصين لها.. الحقيقة التي لاتشوبها روح المجاملة ولا روح التسطح والاستعلاء، غير الحلم وسداد الرأي والابتعاد عن العقم والجفاء...
لقد رحلت يا أبا مهند... رحلت وذرفنا عليك الدموع وودعناك واهتاجت في نفوسنا الحسرات.. واستيقظ في ضـــمائرنا الحنين إليك، حنين لطيم، يانقي الضمير، ويا صادق الكلمة ويا باسق الفعل والعمل، فالشجا يبعث الشجا، والأسى يخلق الأسى، والفراق يؤرقه المدى،... فهاهي دارك العامرة ثكلى وقد رحلت عنها جســـداً ولكنك مقيم فيها روحاً متجدداً وذكرى متوردة تتحدى ريب الزمان وتبقى تنهل مما تركته من آثــار علمية وأخلاق حميدة وسيرة طاهرة عفيفة ، أبية، سخية، نقية، فقد يتفرد السؤدد بالأسى والشجا وحوادث الأيام كثر...
فمكانك هنا أمامنا قائم يذكرنا بك نحوياً فذاً، ولغوياً رصيناً وأديباًٍ مبدعاً... فلن يخلو مكانك ... وسـلام عليك.
المقال كتب بعد رحيل المخزومي
بغداد في 5/ 3/ 1999م