انا واستاذي المخزومي

انا واستاذي المخزومي

علي جواد الطاهر
كاتب وناقد راحل
قد وقعا فاذا الصحب في حيرة من الامر، وفي حزن للامر، في حيرة وحزن ودموع وضياع لا يدرون ماذا يقولون، وماذا يفعلون. وكلما انتشر الخبر انتشر معه الحزن والاسى والاسف. فاذا كان فقد الانسان مجلبة للحزن، فكيف بفقد انسان عالم ادى للامة في خدمة لغتها الكثير الكثير، وله مع خدمة اللغة، خدمات اعم واخلاق ادل! وكيف بانسان عالم عامل عزيز، وصديق صدوق؟ كيف؟ وكيف؟!!

كان ذلك بعيد ظهر الجمعة في الثاني عشر من رمضان لعام اربعة عشر واربع مئة والف الموافق للخامس من اذار لعام ثلاثة وتسعين وتسع مئة والف وينتشر الخبر.
وتمر خلال ذلك بالصديق فهم طيوف، متباعدة حينا، ومتقاربة حينا، ولكنها في جوهرها ثمرة طيبة لعمر من الصداقة زاد على خمسة وثلاثين عاما من الوئام النادر في زمن حلا فيه الخصام، وغلبت المطامع، ووجد الشر سبيله لا حبا..
يرجع تاريخ هذا الوئام الى اوائل عام 1954 وقد عاد من القاهرة ومعه الدكتوراه برسالته «مدرسة الكوفة» والماجستير برسالته الخليل بن احمد الفراهيدي وبليس سهلا ان يجرؤ طالب على هذين الموضوعين، وهما ما هما من قوام اللغة العربية في نحوها وصرفها وفقهها وحجمها ولمنه كان المؤهل، وكان المتوج والرسالتان رمز لسعة العقل، وسمر عن ان يجد المرء نفسه بكوفة او بصرة، ومنهج في الرجوع بالدرس الى منابعه الاصلية.. وكان يجب ان يكون قدوة لمن يقتدي.
كان اللقاء يعقد يوميا، ومرارا في اليوم الواحد، ومتصلا في غرفة كبيرة من غرف كلية الاداب (والعلوم) تسمى غرفة الاساتذة. والاساتذة في عرفهم هذه يتناقشون ويصبخون، ولكن استاذا واحدا بينهم يلازم الهدوء او الصمت، فلا يتكلم الا حين يصل الكلام اليه، واذا تكلم تكلم بقدر وميزان وبصرامة العالم المطمئن الذي اصغى طويلا، وصمت طويلا، وكان اصغاؤه مناظرة، وصمته مناقشة... وكلامه جوابا عن سؤال وحلا لمشكلة وهو بين صمته وكلامه وجود راسخ، وكيان يحسب حسابه. ولا ينفك الطلبة والمدرسون يتوجهون اليه بهذا السؤال من مسائل النحو، وبهذه المشكلة من مشكلات اللغة، ثقة به، واعتمادا عليه وهو المؤهل الذي امتلك ذخيرة من المادة التي حصلها باجتهاد وسهر بين النجف والقاهرة، وجمعت الى اراء الاقدمين وفيهم الخليل والكسائي اراء المحدثين وعلى رأسهم استاذه ابراهيم مصطفى حامل لواء احياء النحو واستاذه مصطفى السقا الذي استوعب القديم ولم ينغلق عليه.
وقديم المخزومي قديم الرواد، قديم الاوائل المبدعين في الجمع والرأي والاخلاص والحرص على الحقيقة... فيما كان في البصرة والكوفة وفي الاشعة التي امتدت الى بغداد.
وما كان قديمه قديم المتأخرين الذين كانوا سببا في ضيق في ضيق النحو وجفافه، وموته احيانا، ومن الفوا ما الفوا في عصر الجمود تحت سلطان الجمود بعيدا عن الحياة، بعيدا عن الشخصية واين الشخصية منهم وقد شغلوا بالتعقيد والتكرار والنقل وتكديس القواعد وفروع القواعد، وشواذ القواعد.
اذا اراد الطالب الحديث ان يأخذ النحو من مظانه فما عليه الا ان يرجع الى الاصل، الى الرواد والمؤسسين، وهذا ما فعله المخزومي، ودعا اليه مترفعا عن الاجترار داعيا قومه الى الترفع معه.
وحين تكون اللغة وجودا، فانها لا تقتصر على التقديم الذي فرغ منه، وانما هي في المعاصر، وليس استاذا للغة من لم يعاصر امته، ويعاصر ما تقوله وما تكتبه، وما تبدعه في رأي وذوق وليس استاذا للغة من وقف عند الدرس اللغوي لا يمتد الى الابداع قديما وحديثا، ابداع الشعراء والكتاب على مدى التاريخ وابداع المقالة في مجلتي «الرسالة والثقافة».
اجل والمخزومي في هذا كما يجب ان يكون العاملون في الحقل اللغوي، فلا يغرقون في القديم وحده، ويشغلهم القديم وحده عما لغة من جديد ومعاصره. واحسب ان هذا الذي تهيأ للمخزومي، لو تهيأ للآخرين، وعملوا به، وساروا عليه لا تسع الافق وحلت المشكلات، وطاب الدرس، وصحت القدوة الحسنة لمن يقتدي.
وليست اللغة علما فقط، وحياة فقط، وانما هي علم وعمل وحياة تنساب من قلم سمح، وعلى الانسياب مسحة لابد منها حتى في البحث العلمي- من جمال تغري بالمتابعة وتؤنس لدى القراءة، وتدل على ان اللغوي يمتلك اللغة ويحسن التصرف بها، ويتحسس جمالها مفردة ومركبة هي على قلمه كما هي على اقلام المبدعين، فاذا هو اديب متمكن، واذا الذي تقرؤه له ادب رائق.
والمهمة ليست ميسرة لاي رامها، لانها تشترط ما توفر للمخزومي من ذوق وشاعرية ونقد. ولو لم يكن المخزومي نحويا لكان شاعرا، ولو لم يكن شاعرا لكان مقاليا ولو لم يكن مقاليا لكان ناقدا.
وها هي ذي كتبه بإزائنا تتوالى، قد تكون قليلة العدد، فما كان الرجل ليعنى بالكم، وما كان يكتب ليقال انه كتب، فصلا عن ترفعه عن الارتزاق بالتأليف وهو المتريث المتأني المتأنق الزاهد بما يقع فيه غيره من اهل الكم ولطلبة «المادة» واذا لم نقرأ له «الدرس النحو» و»عبقري من البصرة» فاقراء له كتابا صغيرا في سلسلة «الموسوعة الصغيرة» بعنوان «اعلام في النحو» اقرا، لترى كيف يتحدث نحوي مقالي شاعر عن نحاة نحاة، وكيف يستل مواطن نبوغهم ليضوع عبقه خلال كلماته وهكذا يحسن او يجب ان يكون اللغوي ليكون قدوة لمن يقتدي.
المزيد المزيد يا ابا مهند.. القارئ يطلب المزيد ولكن ابا مهند لا يريد ان يخرج عن سمته، ويكفيه ما اتانا به من قديم وجديد، فكان مما كان رجوعه الى الخليل والكوفة، وكان اول من سمعنا منه مبحث «الاصوات» في العربية، ومن جديد جديد يسعى الى التيسير، وبين هذا وهذا ذوق ونظر وافق وقلم في ميدان التخصص العلمي، واجتماعية طبيعية في الصداقة والصديق.
وينسجم الاتزان منذ تعارفهما في اوائل عام 1954، وكأنهما خلفا صديقين، وان تعارفهما يعود الى ما قبل ذلك كثيرا كثيرا.
يلتقيان في كلية الاداب، وخارج كلية الاداب، وحين كان من رأي المخزومي اعادة «علم المعاني» الى النحو، كانت فرصة لان يحاضر طلبة دار المعلمين العالية الى جوار صديقه الذين يدرس «البيان» و»البديع» في هذه المادة من درس البلاغة وكانت فرصة للصديقين في ان يلتقيا عصرا في «دار المعلمين العالية».
وتمتد الفرصة لتسهم فيما عرفته الدار في موسمها الابداعي باسم «جماعة الانشاء الادبي» وتذكر الجماعة ذوقه النقدي السليم.
ثم كانت فرصة «المعلم الجديد» ومولد سلسلة «اعلام في النحو»، ومحامد المخزومي الانسان، كثيرة فهو صديق اصيل يحرص طواعية على اصول الصداقة كاملة بما يستدعي «عقدها الاجتماعي» من تضحيات، وما يستلزم دوامها من «روحانيات» ليكون فيها قدوة لمن يقتدي.
واحسبت ان محك الصداقة، السفر، ولقد جربت المخزومي في اسفار بعيدة، متكررة، ربما عاد منها غيرنا متباعدين، متفارقين، ولكننا كنا نحيا السفر في وئام، ونعود منه ونحن امتن صلة واشد عودا واسد رأيا، وينطلق المخزومي في ذلك من مفهومه العالي للصداقة فطرة واكتسابا، ومن خلقه العالي في المواءمة والموافقة والمسابقة في الفضل.
واذا استدعت الصداقة صبرا فان صبر المخزومي خارجها اعجب واغرب، ومن هذا الخصوص الذي يكتسب صفة العموم ان يشغل المخزومي عمادة كلية الاداب ويمضي عمرا من عمره في خدمتها.
واشهد انه لن يفد من العبادة اي جدوى شخصية من ابهة، وما كان طالب ابهة، ومن مجد فما كانت العمادة لتفوق مجده النحوي، وما كان مجده النحوي ليقوم شامخا لو ام يقترن بالعمل والحياة، وما العمادة الا مظهر للعمل والحياة، ولو لم يقترن بالاديب لما جاءته نيابة الرئاسة في اتحاد الادباء العراقيين، ورئاسة تحرير «الاديب العراقي».
اريد ان اقو لان مجده النحوي لم يقم عزلة او على اجترار لمادة مستهلكة وانما يقوم على العمل والحياة، واري دان اكرر ان المجد لا يأتي النحوي اذا لم يماري النص الادبي رأيا وت1وقا وقلما مدركا سحر الكلمة منفذا سحر الكلام .
عن كتاب اساتذتي صدر عام 1988