المخزومي العالم القريب من طبيعة اللغة

المخزومي العالم القريب من طبيعة اللغة

فاروق محمود الحبّوبي
وفاء لروح أستاذي الكبير المرحوم الدكتور مهدي المخزومي – رحمه الله – استذكر محاضراته وآراءه في نبذ العلل الفلسفية والعقلية البعيدة عن حرية اللغة وتكيفها وتحديثها وحلولها اللغوية الخالصة. لقد وجدته العالم القريب من طبيعة اللغة دون النظر إلى مذهب القائل بَصْرياً كان أم كوفياً أم بغدادياً أم اندلسياً، متقدماً كان أم متأخراً، بل يتابع وينتصر للرأي الحصيف المختار المناسب، معطياً رأيه الدقيق في ذلك.

وأجدني الفقير إلى الله واليكم والتلميذ الصغير بين ظهرانيكم لا ارغب في الدخول والكتابة في مجالٍ انتم أحقّ به وأخصّ وأسمى به وأَمَسّ. سوى ماعُرفتُ به من مجال النقد ودراسة الأسلوب. وسأتناول القيم النقدية المرتبطة بأساليب التعبير شكلاً توجيهياً ونقدياً، وهو ما يمثل آراءه في بعض قيم علم المعاني.
الجملة في اللغة:
أشار المرحوم الدكتور مهدي المخزومي إلى (الْجُملة) معرّفاً:(هي الصورة اللفظية الصغرى للكلام المفيد في أية لغة من اللغات، وهي المركّب الذي يبيّن المتكلم به أن صورةً ذهنيةً كانت قد تألّفت أجزاؤها في ذهنه، ثم هي الوسيلة التي تنقل ما جال في ذهن المتكلّم إلى ذهنِ السامع).
فلهذه الوحدة الكلامية الصغرى (أهمية كبرى في التعبير والإفصاح والتفاهم)[2]. حيث جعل تلك الأهمية في ثلاثة مفاصل، هي:
1. التعبير.
2. الإفصاح.
3. التفاهم.
وانّ ابن هشام النحوي في مغني اللبيب هو أوّل مَن عُنِي بالجملة وأنواعها وأقسامها وكان مَن سبقه من النحاة يُعْنَون بظاهرة الإعراب وتفسيرها والاهتمام بالكلمات بوصفها معمولات، والجمود على ذلك، مع الحرمان من مصادر حيويتها وتنوّع أساليبها. وعدا ما وصل إلينا من دراسات ابن جنّي والشيخ الرّضي شارح الكافية. وينتقل الدكتور المخزومي بالدرس اللغوي عبر المراحل آلاتية:
1. الدراسة الصوتية، بخواصها وتمازجها وصفات مخارج حروفها وتاٌلف بعضها مع بعض.
2. الكلمة المفردة، وما يرافق ذلك من بنائها وتغيّرٍ في داخلها أو اشتقاقها.
3. العناية بالكلمة مؤلّفةً مع غيرها في الجملة. التي هي اصغر صورة من صور التعبير.
وهذه المرحلة الأخيرة المرتبطة بأساليب التعبير جديرة بالدراسة المستفيضة التي تعرض للجملة أو لأجزائها من أحوال تتعلق بالذِكر والحذف أو بالتقديم والتأخير أو غير ذلك، مما أفاض فيه نحاة حقيقيّون هـم أهـل المعاني، كالْجرجاني في (دلائل الإعجاز) والسّكاكي في (مفتاح العلوم) والخطيب في (الإيضاح) والتفتازاني في شروحه على التلخيص في (المطّول). وهؤلاء بلاغيّون برمّتهم.
أن هذه المرحلة هي ماسنسلّط الضوء عليه من خلال فكر المخزومي فيما يتعلّق الأمر بعلم المعاني.
أساليب التعبير:
توصّل الدكتور المخزومي إلى أنّ الجملة أساس التعبير وهي خاضعة لمناسبات القول، وللعلاقة بين المتكلّم والمخاطب، ولن يكون الكلامُ مفيداً، ولا الخبرُ مؤدّياً غرضَه ما لم يكن حالُ المخاطب ملحوظاً. ولذلك أسهبَ أصحابُ علم المعاني في مقتضى الحال. في حين أهمل النحاة دراسة المعاني.
وكان للمخزومي رأيه في توحيد دراستي النحو والمعاني للجملة[5]، دون النظر إلى المصطلحات والتعبيرات المصطنعة: (الصحيح والفصيح) حين قصد البعض بالصحيح: ما كان صحيحاً نحويّاً، وبالفصيح معنى يزيد على الصحة النحوية من مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أو مطابقته لمناسبات القول. قال: (والذي أزعمه هو أن الجملة الصحيحة لغويّاً ونحويّاً هي الجملة َالفصيحة عند أهل المعاني... لان الشرط الذي اخذ به في فصاحة الجملة شرط يؤخذ به في صحتها، فإذا كانت الجملة مؤلفة من كلمات صحيحة مستوفية لكل ما يتطلبه (الصرف). وإذا كانت الكلمات مؤلفة من أصوات مؤتلفة خلو من كل ما يسيء إلى فصاحتها من تنافر بين الأصوات،... بقيت الجملة مع ذلك تفتقر إلى أهم مقوّمات الصحّة، وهو مطابقتها متطلبات المناسبات ومقتضيات الأحوال).
فتوحيد شطري الدراسة دعوة لتطوير النحو وتحديثه وهو رأي سليم لدراسة النحو العربي على طريق الأسلوبية واللسانيات الحديثة، وهي دعوة مباركة، أطلقها بعد دراسة دقيقة للغة العربية والغوص في خصائصها وقد باركه عليها أساتذته من أمثال: إبراهيم مصطفى، و د.مصطفى السقّا.
ولكن الإشكال يدور في اعتباره مصطلحي: الصحيح والفصيح من التعبيرات المصطنعة وهذا أمر يجانب الدقّة لان الصحّة اللغوية والنحوية شرط من شروط الفصاحة عند أهل المعاني. والصحيح يعني الموافقة مع قواعد اللغة نحواً وصرفاً وأصولَ تأليف، لان سلامة لغة النّص من سلامة قواعده وصحّة تركيبه، فالقياس اللغوي عنصر ضروري لتثبيت المعنى، فلا يجوز الإخلال بقواعد النحو لئلا يقع العيب والمخالفة ونفور الذوق ومخالفة المألوف.
في حين أن الفصاحة تتعدى هذا الشرط إلى شروط أخرى كالتالف والانسجام في تركيب الألفاظ، بحيث يتقبلها الذوق، وتتناغم في السّمع، وتسهل في النّطق. وكذلك وضوح المعنى الذي يعطي للمتلقّي طابع صفاء ذهن الباث. فضلاً عن قوة السبك التي تمثّل تماسك العبارة وجزالة أسلوبها وفنيّة طريقتها بحيث يمكن أن تتعلق كلمات النّصّ بعضها ببعض دون انفصال وكأنّها قد بُنيت بناء محكماً متراصّاً.
كما أشار الدكتور المخزومي إلى ضرورة إعادة درس المعاني إلى الدرس النحوي ومعالجة أساليب التعبير المختلفة بما لأدواتها من دلالات ومعانٍ عامّة تؤدي وظائفها اللغوية مِن توكيد ونفي واستفهام وشرط ونداء ونحوها.
وسنتعرّف على القيم ألنقدية المرتبطة بعلم المعاني مما أفرزه فكر المخزومي في هذا المجال.
إنّ المنهج الذي سار وفقه المخزومي أسلوبي بحت يتناغم مع النحو أكثر مما يساور علم المعاني البلاغي. فهو لم يأخذ تقسيم الجملة من حيث الغرض الذي يرمي إليه الكلام (خبرية وإنشائية) وتقسيمات ذلك، بل من حيث الأساليب والأدوات.
لقد تناول الدكتور المخزومي هذا الأسلوب معالجاً أدواته بدلالاتها واستعمالاتها ووظائفها مجتمعةً وصلةَ بعض أجزائها ببعض.
وعالج من خلالها ثلاثة موضوعات من صلب مباحث علم المعاني، وهي:
‌أ. الخبر ألطلبي والإنكاري.
‌ب. أسلوب القصر.
‌ج. التقديم والتأخير.
وبدأ مبحثه بتعريف التوكيد: (تثبيت الشيء في النفس، وتقوية أمره). ثم أشار إلى الغرض منه، قائلاً: (إزالة ما علق في نفس المخاطب من شكوك،
وإماطة ما خالجه من شبهات).
وذكر ما للتأكيد من طرائق مختلفة وأدوات متنوعة، كان جديراً بالنحاة أن يولوها عنايتهم ويدرسوها دراسة شاملة فاحصة، عدا ما قصروا اهتمامهم على جانب من جوانبه غير المهمّة وغير الحيوية، وقد فاتهم من جوانب التوكيد الأكثر قوةً وحياةً، قال:(وكان الجانب الذي عنوا به يقوم على أساس من التكرار واللفظ، أو التكرار بإيراد كلمات لها معنى المؤكد، وهي ألفاظ التوكيد المألوفة للنحاة: النفس والعين وكلا وكلتا، وأمثالها). وهو يؤمن بان التوكيد بالتكرار صورة من صور التعبير ولكن هنالك من الصور الاخرى التي لها المجال الأوسع، قال: (فهناك التوكيد بالقسم والتوكيد بالقصر والتوكيد بالتقديم وهناك أدوات كثيرة مفرّقة مبثوثة هنا وهناك من أبواب النحو يؤكد بها الجمل الفعلية ويؤكد بها الجمل الاسمية، وهناك صور أخرى لا ازعم أنهم كانوا يجهلونها، ولكني ازعم أنهم تجاهلوها، لأنها لا تحقق لهم هدفاً ولا تظهر لهم براعة، وليس لها صلة بالعامل الذي كان له نفوذ لا يقاوم على أساليب تفكيرهم .

عن مبحث (أساليب التعبير في علم المعاني عند الدكتور مهدي المخزومي) منشور في: مجلة أهل البيت عليهم السلام العدد 4.