وثبة كانون الثاني 1948..سقوط وزارة صالح جبر وفراره

وثبة كانون الثاني 1948..سقوط وزارة صالح جبر وفراره

د .فاطمة صادق عباس السعدي
لم يتحقق لصالح جبر، ماكان يصبوا إليه وقد بلغت الوثبة ذروتها، وطالب الرأي العام والمتظاهرون من البلاط الملكي ، استقالته ومحاكمته . وقد اعتبر يوم السابع والعشرين من كانون الثاني، يوم الوثبة الوطنية الخالدة.

لقد كان اعتقاد صالح جبر في السيطرة على الموقف في غير محله ، فقد انتهى كل شيء عمليا، ويذكر رئيس الديوان الملكي احمد مختار بابان "أن الأمير عبد الإله قد تخاذل في اللحظات الأخيرة او ربما ضعف بتأثير والدته وإخوانه وبقية أفراد العائلة المالكة الذين كانوا مرتبكين جدا بسبب الأحداث التي تناقلتها الألسن مع قدر من المبالغات في مثل هذه الحالات ". تعددت الروايات حول هروب صالح جبر، فتجد أحدهم يقول "هرب صالح جبرالى ناحية الشامية بلواء الديوانية ليتخلص من بطش الشعب ومن ثم سافر الى الأردن فإنكلترا بعد أن شكره عبد الإله على كتاب الاستقالة " ، بينما يذكر اخر "إن هروب صالح جبر ولجوئه الى أصهاره من آل جريان في الهاشمية على شاطئ نهر الفرات في الحلة، اثر الاصطدامات الدامية"، وفي هذا الصدد يقول جيرالد دي غوري، هرب صالح جبر ناجياً بنفسه والتجأ إلى داره الاولى في ادنى منطقة الفرات في الوقت الذي كانت تسير مئات الآهلين وراء جنائز الشهداء. يضيف احمد مختار بابان، كنت أدون كل كلمة كان المجتمعون يتفوهون بها في حضور الأمير.
ويروي أيضا أنه اتصل هاتفيا بصالح جبر بطلب من الأمير عبد الإله الذي امر أن يحضر صالح جبر الى قصر الرحاب، وقال لصالح جبر ".. ربما انك تحس بالتعب نوعا ما ، فأذا أمكن ارجو حضورك الى قصر الرحاب ، لم يفاجأ المرحوم صالح جبر بالخبر، وهو فهم مضمون الرسالة حالا فكان رده بالذهاب الى قصر الرحاب مباشرة .. قدم صالح جبر كتاب استقالته الذي انطوى على نوع من الانتقاد والتأنيب الرصين. في الحقيقة في العراق الملكي، كانت آداب التعامل السياسي راقية بكل معنى الكلمة وكانت لغة المخاطبة رفيعة .." ويضيف بابان أن الأمير عبد الإله تلقى الاستقالة من صالح جبر بطريقة حنونة للغاية، حتى أنه احتضنه بحرارة وقبله، ونظرت في هذه اللحظة الى عيون الأمير فوجدتها مغرورقة بالدموع. وكان رد المرحوم صالح جبر بالمستوى نفسه ، فقد أكد للأمير استعداده الدائم لأن يتصرف حسب أوامر العرش وبهذا اسدل الستار على وزارة صالح جبر وفترة حكمه الحافلة بالأحداث " .
ويصف احمد مختار بابان الوضع بقوله "لم يفهم الجميع هذه الأمور ، كما يجب ، ولم يقدروها بصورة واقعية، والشعب العراقي عاطفي بطبيعته، فهياجه سريع وحبه سريع وبغضه سريع. فخلال دقائق معدودات بدأ الجميع يهتفون بحياة الأمير عبد الإله عندما أعلن عن إلغاء معاهدة بورتسموث في عهد وزارة السيد محمد الصدر .." ومع اعتقادي بأنه ليس من مصلحة أية دولة أن تسير بعقلية غوغائية وبتأثير الشارع ولكن كان يجب (مماشاة) شعور الناس على قدر الإمكان، فيجب دائما أن يحسب حسابا دقيقا للرأي العام وعدم المساس بشعوره وتقرير مبادئه" . وقد اضطر الوصي عبد الاله الى اصدار ارادة ملكية بحل الوزارة في التاسع والعشرين من كانون الثاني 1948 . بعد تقديم الاستقالة سافر صالح جبر الى الهاشمية ، حيث يقيم أصهاره من آل الجريان ، ثم الى الأردن فإنكلترا .
كان من الطبيعي والحالة هذه أن تفشل المعاهدة، التي حكم عليها الرأي العام العراقي ، منذ البدايه، كونها أدت الى تشديد تبعية العراق الى بريطانيا، وإنها أسوأ من سابقتها . كتبت الصحافة الكثير عن الوثبة ، فقد كتب كامل الجادرجي، مقالا ألقى باللائمة على الحاكمين الذين أعمتهم بصيرتهم وطغت على نفوسهم ، مفاسد الحكم ووصف نضال الشعب بقوله "انقلب هذا الشعب الكريم الهادئ الذي حسبه الحكام بحرا ميتا بين عشية وضحاها إلى أمواج متلاطمة تصاعدت إلى عنان السماء "، وتحدث الجادرجي عن صالح جبر بقوله" الطبيب الجاهل والحاكم الجاهل سواء ذاك يقود المريض إلى الموت وهذا يقود الأمة إلى الهلاك".كما تشير إحدى الرسائل العلمية إلى ذهاب الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، شخصيا إلى الوصي عبد الإله، لإبلاغه شخصيا بطلب علماء الدين في النجف بإبعاد صالح جبر وإيقاف المجازر واعادة الأمن والاستقرار.
مهما يكن من امر فان وزارة السيد محمد حسن الصدر التي اعقبت وزارة صالح جبر قررت الغاء المعاهدة بعد مناقشات في مجلس الوزراء استمرت ثلاثة ايام (31 كانون الثاني – 2 شباط 1948) لكن وزارة السيد الصدر لم تتمكن من احداث تغيير في مسار العلاقات مع بريطانيا التي بقي نفوذها السياسي والاقتصادي قوياً في العراق. ومع مرور الوقت ، فقد أستمر خضوع العلاقة السياسية بين الطرفين، للأسس التي حددتها معاهدة 1930، إلا ان مسألة التعديل بقيت قائمة ولم تتجاهل الحكومات التي جاءت بعد العام 1949، هذه المسالة. وقد أعادت بريطانيا النظر في سياستها في الشرق الأوسط، فيما بعد ،اعترافها بعدم قدرتها على العمل لوحدها في الدفاع عنه .
على الرغم من موقف صالح جبر من الحركة الوطنية واضطهاده الأحزاب السياسية، فضلا عن تردي الأوضاع الاقتصادية وأزمة الخبز والتموين ، والإدارة السيئة ، فأن مبعث رفض المعاهدة ، هو كراهية الشعب العراقي لبريطانيا، وبخاصة بعد صدور قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947 أي قبل توقيع المعاهدة بحوالي ستة أسابيع، ووعي ابناء الشعب وبخاصة الطلبة والشباب ومن يحركهم من الأحزاب السياسية الوطنية والقومية ، التي اندفعت لمواجهة وزارة صالح جبر، التي حملها الجميع مسؤولية توقيع المعاهدة. ونجد ابلغ وصف تقييمي عن الموضوع الذي نحن بصدد البحث عنه ، ما قاله الدكتور كمال مظهر احمد ، بأن القوى الوطنية ، قد وقفت بصلابة وحددت مطاليبها الرئيسة ، بإلغاء المعاهدة وإسقاط حكومة صالح جبر ، وأجراء انتخابات حرة ، ووضع حد للغلاء الفاحش واطلاق سراح السجناء السياسيين وإشاعة الحريات الدمقراطية ومساندة فلسطين لإنقاذها من الاستعمار والصهيونية . وان ابرز دروس هذه الوثبة التي أطاحت بالمعاهدة ، هو تعبير حي للوحدة الوطنية بأسرها ، يساندها الرأي العام العراقي بعربة وكرده ، بعيدا عن الفورات المذهبية والقومية المصطنعة ، التي رعاها ونماها وقوى جذورها المستعمر والعملاء آنذاك. واثبتت وثبة العراقيين أنها دقت بصلابة اكبر إسفين في نعش السياسة الخارجية البريطانية في المشرق العربي كله ، واسقطت بيد المتعاونين مـع السياسة البريطانية كل المحاولات اليائسة .

عن رسالة (صالح جبر ودوره السياسي في العراق
حتى عام 1957)