ريجيس دوبريه: بحثاً عن ماركسية خالية من الأوهام

ريجيس دوبريه: بحثاً عن ماركسية خالية من الأوهام

سعد محمد رحيم
كاتب راحل
ثمة مفكر آخر ينتمي إلى تلك الكوكبة اللامعة من المفكرين الماركسيين الذين تتلمذوا على كتابات غرامشي ولوكاش وتشربوا تقاليد الثقافة الفرنسية في الآن نفسه، هو ريجيس دوبريه. ودوبريه شغل الأوساط الفكرية والنضالية في الوقت الذي كان لثورات العالم الثالث بريقها وجاذبيتها، يوم ذهب إلى أميركا اللاتينية، وهو في العشرينيات من عمره،

وانضم إلى الحركة المسلحة التي كان يقودها جيفارا في بداية الستينيات من القرن الماضي، وهناك كتب عدداّ من الكتاب لينظِّر لتلك الثورة وينتقد بعض جوانب تكتيكاتها واستراتيجيتها منها (ثورة في الثورة)، وقد ألقي القبض عليه وأودع السجن في بوليفيا بضع سنوات قبل أن يطلق سراحه بضغط دولي. وفي السجن كتب مذكراته (مذكرات برجوازي صغير). ومن ثم ألف رواية يحكي فيها جوانب من مشاركته في الثورة هناك أسماها (غير المرغوب فيه). قبل أن يعود إلى فرنسا ويتفرغ للعمل الفكري والثقافي. وبلا شك أثرت تلك التجربة في شخصيته وفكره وإنتاجه اللاحق، لاسيما في كتابه (نقد العقل السياسي).. يقولفي حواريته مع جان زيغلر*؛"وأميركا اللاتينية التي أتحدث عنها هي في العمق المكان الذي اكتشفت فيه أسلوباً آخر للعيش اليومي، معنى ما للاحتفال، والهجنة والانفعالية المفرطة والسخاء الذي لا يوصف". لكن خيبة أمله في الثورة، وما أفضت إليه التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية من فشل وبيروقراطية ومصادرة للحريات، فضلاً عن إعادة قراءته وتقويمه للفكر الماركسي قادته إلى التنصل من ماركسيته؛
يقول؛"أحفظ من الماركسية نزعتها العقلانية، فأنا عقلاني حتى في مقاربتي للظاهرة الدينية... أما سوى ذلك فقد تخليت عن الماركسية منذ عام 1968". وبعد ربع قرن من هذا التاريخ، وبعد أن سقطت التجارب الاشتراكية، وساد منطق العولمة واتخذ تاريخ العالم مساراً لم يكن في الحسبان وجد نفسه إزاء واقع مغاير تقصر الماركسية التقليدية، كما يعتقد، عن فهمه وتفسير تحولاته. فالعالم يتوحد على وفق اعتبارات ومقتضيات عقلانية السوق لكنه يتخلى عن أن تكون له هوية جمعية موحدة؛"إن العالم يزداد تشرذماً بازدياد وتائر توحيده". وأن المجتمعات تنكفئ إلى الاحتماء بهوياتها ما قبل الدولتية بالتوازي مع تطور وسائل الاتصال والإعلام، وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة جامعة. فهي إذن عولمة ذات طابع أحادي خادع. مدركاً أن"هذا الحيّز الذي يُزعم أنه يشمل الكرة الأرضية بأسرها، هو أميركي في الجوهر والأساس؛ وذلك يُعمِّم على الكرة الأرضية نمط الحياة والفكر الأميركي الشمالي. فهي إذن عولمة زائفة لا تبادل فيها ولا تعامل بالمثل". هذا ما يخلص إليه دوبريه في قراءته لصورة العالم المعاصر، حيث تطغي قوانين السوق الرأسمالية على العالم سالبة المجتمعات هوياتها، والتي تنزع في رد فعل مفاجئ إلى الركون إلى هوياتها المحلية والغائرة في عمق ماضيها، وحيث أن"تحديث البنى الاقتصادية يحيي سلفية الذهنيات. ومثل هذا الأمر لم يكن في وارد البرنامج الذي وضعه ماركس أو آدم سمث".
لم يعد العالم الذي حكى عنه ماركس وانتقده بضراوة موجوداً.. لم تعد هناك أمميات الحركات العمالية التي ولدتها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.. يقول دوبريه؛"ربما ما عادت الأمميات موجودة لأن الحركة العمالية ما عادت موجودة. وإذا كانت الحركات العمالية ما عادت موجودة ـ ونحن هنا ندلي بدلو ماركسي ـ فذلك يعني أن الأسس المادية لهذه الحركة ما عادت موجودة". إن بنية العالم الاجتماعية والطبقية والسياسية تتحوّل وتتغير، والصورة التي ألفناها للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الطبقات وبين الشعوب قبل عقود قليلة أصبحت شيئاً من الذاكرة. فالجنوب، كما يقول"يتبتلر (من بروليتاريا) والشمال يتبرجز (من البرجوازية)، وأن البروليتاريا في الشمال تستبدل، شيئاً فشيئاً، بأعداد المهاجرين من الجنوب". والآلة باتت تحل محل العامل اليدوي، والكومبيوتر بات يستعيض عن الذهن البشري في حل أعقد المسائل. ولهذا بحسب دوبريه؛"ما عادت الماركسية صالحة لوصف مجتمعنا الغربي".
يعقِّب جان زيغلر على أطروحة دوبريه بتأكيده على أن الفرضية الأساسية التي تقوم عليها النظرية الماركسية برمتها (كذلك علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي لسمث وريكاردو ومالثوس) هي الندرة الموضوعية؛ أي أن موارد الأرض لا تكفي لتلبية حاجات سكانها المتزايدين. وهذه الندرة مثلما يخبرنا زيغلر ليست موجودة اليوم، وبالتالي فالفرضية الأساسية للماركسية لم تعد قائمة. لكنّه يعد ويقر بوجود ندرة اجتماعية"يولِّدها نظام قاتل للعالم، ماثلة على نحو مخيف". وقد بنت الماركسية الجزء المهم من نظريتها على هذه الندرة الاجتماعية التي هي معطى طبيعي لنظام اقتصادي اجتماعي جائر هو النظام الرأسمالي.
وإذا كان دوبريه ينكر شعار (يا عمال العالم اتحدوا) وينعتها بأممية الخرافة الماركسية الكبيرة فإنه يقر أن نضاله إنما ينصب"لكي لا يتحول هذا الكوكب إلى سوبر ماركت، وأن تكون هناك جزر صغيرة كالدولة والثقافة والتعليم، خارج قانون العرض والطلب، وخارج قانون الموسر الأكبر". فالنظام الرأسمالي يتبع منطقه الداخلي، وهو منطق لا ينطوي على قيم أخلاقية. فالرأسمالية"بربرية تعريفاً، وينبغي أن نناضل ضد هذه البربرية في العمق، إذا كنا نؤمن بذلك". غير أنه يعود ويتساءل إن كان هناك بديل عن السوق؟ وعلى حد تعبيره"فقد يكون التطور الذي سيطرأ خلال هذا القرن هو البرهان على أن هذا البديل لا وجود له".
تكتسي أفكار دوبريه، في كتاباته المتأخرة، شأنه شأن كثر من الماركسيين السابقين، بمسحة من التشاؤم حتى أنه يؤشر نقطة خلاف له، يجدها أساسية، مع الماركسية، وهي نزعتها التفاؤلية.. يقول؛"إن الماركسية هي نزعة تفاؤلية مرضية، وعمياء، وبلغت من الخطورة بحيث أنها لم تر الضوابط البنيوية للكائن الجمعي، والطابع المتجدد لتوالد العنف، والطابع الديني الذي لا يمكن تجاوزه. إذ قد يسبب التفاؤل أحياناً من الشرور ما قد لا يتسبب به بعض من التشاؤم".
في خضم خوضه حرب العصابات في أحراش بوليفيا، وقضائه سنوات بين جدران أربعة في السجن، أعاد دوبريه التفكير بالمسلّمات النظرية لتي كان يؤمن بها. عندئذ اكتشف، كما يعترف، جانباً مهماً، وكاملاً، من الواقع أغفلته الماركسية. فبدءاً ليست السياسة"هي الاقتصاد مركّزاً، بحسب مزاعم لينين. فثمة نصاب مستقل للسياسي". في مقابل"أن السلوك السياسي للمتحدات البشرية لا تبدِّل منه التغيّرات التي تطرأ على نمط الإنتاج الاقتصادي". فماذا نستخلص من هذا؟.. يقول؛"بالإمكان الاستدلال من ذلك على لاوعي سياسي قارّ، ليست الأديان والإيديولوجيات سوى أعراضه المتلوِّنة. هذا اللاوعي السياسي يُستمد من بنية خاصة بكلِّ مجتمع بشري أياً كان هذا المجتمع، وأسمي هذا اللاوعي السياسي باللااكتمال على غرار قضية غودلGodel (في علم الرياضيات) فما من مجموعة تبلغ تمامها بالعناصر المتضمنة فيها فقط. ما يعني أن هناك دائماً ما يمكن وصفه باللاعقلاني في داخل كل مجتمع بشري".
يضع دوبريه إلى جانب التاريخ التقني لعلاقات الإنسان بالأشياء، وهو تاريخ ديناميكي، تراكمي ومفتوح (مثلما يدعوها)، التاريخ الديني لعلاقات الإنسان بالإنسان وهو (تاريخ) استعادي وقابل للبرمجة. وإذن فلا يحصل تقدم تقني، برأيه، إلاّ على الصعيد التقني، ولكن ليس بالضرورة على الصعيد السياسي. وهذا خلاصة وروح ما يقوله في كتابه (نقد العقل السياسي).
هنا يتحدث عن الليبرالية والماركسية بعدِّهما وجها وهم واحد هو (الوهم الاقتصادي). حيث يغدو"ماركس وآدم سمث وريكاردو... تنويعات على فرضية واحدة"وهي فرضية خاطئة من وجهة نظره.. فيستدرك قائلاً؛"إن ما يضعه ماركس في خانة البنية الفوقية إنما ينتمي إلى البنية التحتية للنمو الاجتماعي. فالدين.. ليس معطى انتقالياً، بل إنه معطى بنيوي في كافة المجتمعات البشرية، حتى المعلمنة منها". وما ينشده هو تقويض النزعة الاقتصادوية، وإعطاء العوامل الأخرى حصتها في التغير الاجتماعي.. ويستدرك قائلاً؛"إن موازين الهيمنة ليست فقط ذات طبيعة اقتصادية،بل أصبحت رمزية أكثر فأكثر، ومتخيلة وثقافية. لذلك لا زلت أتبنى واقعية ماركس الخالية من الأوهام".

* (كي لا نستسلم) ريجيس دوبريه وجان زيغلر.. ترجمة؛ رينيه الحايك وبسام حجار.. المركز الثقافي العربي.. الدار البيضاء ـ بيروت/ ط1/ 1995.

هذا المقال سبق ان نشر في المدى عام 2011