د.عبدالله حميد العتابي
استعار المفكر الايطالي غرامشي مصطلح المجتمع المدني والمجتمع السياسي من منظومة الفكر البرجوازي، وتحديداً من كتابات هيجل، اذ عمل على تحويل المفهومين الهيجليين (المجتمع المدني والمجتمع السياسي) تماماً كما فعل ماركس، وكانت نتيجة ذلك التحويل، ان اصبح مفهوم المجتمع المدني مقطوع الصلة بدلالاته السابقة، فبعدما كان يشير الى دائرة التنافس الاقتصادي بين الافراد، اصبح جزءاً من البنية الفوقية والتي يشير بها غرامشي الى المؤسسات الطبقية والاجتماعية التي تختص بالوظائف الايديولوجية.
تأسس مشروع غرامشي النقدي على محاربة تأويلات معينة للماركسية تنكر اي دور فعال للبنية الفوقية، وتتعامل مع الوعي الاجتماعي بوصفه مجرد انعكاس سلبي للقاعدة الاقتصادية ومن ثم عالج غرامشي موضوعات البنية الفوقية بوصفها تعبيراً عن ارادة جماعية وطبقية.
حاول غرامشي ان يطرح موضوع المجتمع المدني في اطار نظرية السيطرة والهيمنة الطبقية، ويستخدمه لاعادة بناء ستراتيجية الثورة الشيوعية او التحررية، اذ ميز سواء في كتابه الامير الحديث ام دفاتر السجن بين آليتين رئيستين للتحكم الاجتماعي- السياسي في البنية الفوقية:
الآلية الاولى: الدولة وما تملكه من اجهزة ادارية وامنية، وتتحقق فيه السيطرة المباشرة، اي السياسية، عن طريق الاكراه.
في حين ان الآلية الثانية: تشير الى المجتمع المدني وما يماثله من احزاب ونقابات وجمعيات وهيئات ووسائل اعلام ومدارس، وتتحقق فيه وظيفة ثانية لابد منها لبقاء واستمرار اي نظام وهي الهيمنة الايديولوجية والثقافية.
وعليه فان غرامشي يرى ان السيطرة محكوم عليها بالسقوط اذا لم تقترن بالهيمنة، ولذا فانه دعا الحزب الشيوعي الى ممارسة- حرب المواقع- المهيمنة، وذلك قبل الثورة وبعدها، اي قبل امتلاك وسائل السيطرة وبعدها، مما شكل اعمق نقد للستالينية من حيث انها اهملت الهيمنة عبر المجتمع المدني، بل حطمت المجتمع المدني نهائياً، واكتفت بالسيطرة عبر التحكم الشامل من خلال المجتمع السياسي وهذا هو السبب الذي ادى الى انهيار الاتحاد السوفييتي.
لذا دعا غرامشي الحزب الشيوعي الى خوض (حرب المواقع) معركة الهيمنة لاكتساب المجتمع المدني، اي اقناعه وقياداته قبل الاستيلاء على السلطة السياسية، والاستمرار بذلك حتى بعد الاستيلاء على السلطة السياسية.
وتتم تلك الهيمنة الايديولوجية بخلق نخبة من المثقفين، فالكتلة البشرية لن تتميز، ولن تصبح مستقلة بفعل ارادتها من دون تنظيم وبالمعنى الشامل، وليس هناك من تنظيم بلا مثقفين- على حد قول غرامشي- ومن ثم بناء حزب سياسي ثوري يؤدي دور المثقف الجمعي، بعده القارب، الذي يقود ويربط بين ضفتي النظرية والممارسة، اي ايجاد العلاقة العضوية وبلورتها بين شعارات الحزب السياسية وايديولوجية الماركسية من ناحية وبين قواعد الحزب وملاكاته وجماهيره من ناحية اخرى لتكوين مثقفين عضويين من اصول كادحة وفقيرة اوبروليتارية، للوصول الى الوحدة بين القوة المادية والايديولوجيا الكفيلة وحدها لخلق ما يسميه غرامشي بـ (الكتلة التاريخية).
وعبر ذلك وحده يمكن الانتقال بالصراع الطبقي من القاعدة الاقتصادية (البنية التحتية) الى الصراع السياسي والحزبي والايديولوجي وفي تلك الحالة فقط، باستطاعة الطبقة العاملة ان تتحول الى طبقة مهيمنة، وان توجد حولها جماهير واسعة، وان تحقق الثورة بنجاح.
اذن المجتمع المدني في منظور غرامشي هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي او الدولة التي تتجلى فيها وظيفة السيطرة او القيادة السياسية المباشرة، لان الهيمنة مرتبطة بالايديولوجيا، فان المثقفين هم اداتها، فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي او الدولة يسيران جنباً الى جنب ويجمع بينهما في كل نظام ديناميكية السيطرة الاجتماعية.