مفهوم المثقف عند غرامشي

مفهوم المثقف عند غرامشي

سيار الجميل
ريجيس دوبريه من أبرز المثقفين الذين يتصدّرون المشهد الفكري في فرنسا. وهو كاتب وفيلسوف كما تقدمه الصحافة، وكما هو يؤثر أن يعرّف بنفسه وعمله. لذا عندما سأله محاوره، ذات مرة، عن اللقب العلمي الذي يختاره، أعرب عن نفوره من لقب «الباحث»، قائلاً له: أنا لا أرتدي البرنس.

غمرني كتاب جديد صدر مؤخرا للكاتب البريطاني ستيفن جونز الذي كتب ولما يزل يكتب في النظرية الثقافية وفلسفة القوة المعاصرة، وهو ينشر هذه المرة كتابه الجديد عن الفيلسوف الشيوعي الايطالي الشهير انطونيو غرامشي الذي اشتهر كثيرا بفلسفته عن المثقف العضوي ودوره في تغيير المجتمع، ذلك المفكر المناضل الذي قضى اكثـر من عشر سنوات في سجون الفاشية الايطالية ومات بعد خروجه من السجن وهو في عز الشباب..الكتاب ربط مقارن محكم بين ما كان عليه التفكير قبل خمسين سنة لما غدا عليه هذا الزمن الراهن واستمرارية افكار غرامشي حية متوقدة تثير بحضورها وتواصلها اهتماما واسع النطاق حتى اليوم. ان المؤلف يشير في مقدمته المثيرة الى ان فلسفة غرامشي لم تزل تعمل في فهم واقعنا الاجتماعي في كل العالم. وهنا اعيد فكرتي من جديد انه ان كانت المتغيرات السياسية سريعة مع تبدلات الواقع السياسي، فان المتغيرات الاجتماعية قد لا تتبدل سريعا في واقع اجتماعي معين.
اهمية غرامشي:
ان انطونيو غرامشي له اهميته في تاريخ الفكر العالمي المعاصر، وكان جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية قد اعجب بافكاره الجديدة المنبثقة من حياة المجتمع ومضامين الواقع بعيدا عن المخيال الاييديولوجي الذي توهمه الماركسيون وكتابهم، علما بأن غرامشي قد ولد وترعرع ماركسيا.. ان نظريته في الهيمنة الغربية التي تبلورت على يديه لم تزل حية ترزق بكل اشكالها التي لم تزل تعاني منها المجتمعات غير الغربية.. انها هيمنة ذات كلمة واحدة ورأي واحد لا تقبل المحاورة ولا المجادلة فكيف تبيح لنفسها التنازل والاقرار بالخطأ؟؟ ان غرامشي من الد خصوم الاستغلال الرأسمالي الكاسح، وان ما يحدث حتى يومنا هذا يشير بما لا يقبل مجالا للشك ان الهيمنة لم تزل تحرك كل العالم ضمن ارادة واحدة، كنت قد اسميتها بـ"الكابيتالية الجديدة"(أي: الرأسمالية الجديدة) ضمن ظاهرة العولمة الجديدة. ان غرامشي لا يمكن فهمه حتى اليوم ان لم ندرك ما يحيط العالم من ظروف مادية تاريخية.. ومن هنا ندرك قيمة نظريته عن المثقف العضوي ودوره في تغيير المجتمع. وغرامشي نفسه لا يمكننا فهمه وفهم افكاره ودفاتر كتبها في سجنه الا ضمن سياقه التاريخي والظروف التي عاشها وان ذلك يدعونا لموضعه اي مفكر او مثقف ـ على حد تعبير المؤلف.
وقفة عند حياة غرامشي ونضاله
ولد غرامشي عام 1891 في سردينيا جنوب ايطاليا ودرس في جامعة تورين التي انخرط فيها عام 1911، وكان في العشرين من العمر.. نشر في الصحف الايطالية في الرابعة والعشرين وكان قد تأثر بموجة الفكر الماركسي وبدأ يدافع عن الشغيلة واوضاعهم المزرية على ايدي الطبقة الرأسمالية.. ثم انتسب الى الحزب الاشتراكي الايطالي ومن هذه اللحظة التاريخية بدأ نضاله المرير اذ تبدل اسم الحزب الى الحزب الشيوعي بعد ذاك. كان غرامشي رقيقا ويتفجر عاطفة مع حس انساني عالي المستوى، واخذ يدافع عن حقوق العمال المسلوبة.. وكان يأمل ان يتحول التمرد العمالي عام 1917 الى ثورة عارمة، ولكن باءت احلامه بالفشل وهو يسمع بانتصارات ثورة اكتوبر الاشتراكية التي هدّت الصرح الروسي وانتهاء حكم القياصرة. وكان غرامشي قد تأثر بكتابات الفيلسوف أنطونيو لابريولا: 1843- 1904، أهم الماركسيين الإيطاليين الأوائل كان له تأثير جوهري في فكر غرامشي الفلسفي.
يتابع هذا الكتاب سيرورة غرامشي بكل دقة قبل مرحلة السجن والنضال في داخله، بل ويراقب ما نشره من مقالات لا تعد ولا تحصى وكلها دعوة الى مشروع تثقيف العمال سياسيا وفكريا من اجل تنظيم المجتمع الايطالي واثارة الوعي لدى الطبقة العاملة.. كان يدعو ليل نهار الى بناء ثقافة اشتراكية حديثة، وقال بأن ذلك لا يتم حصوله الا بتغيير الحزب وانتقاله من الاصلاحية الى الثورية من اجل تفجير الثورة الشاملة، وهنا يبدو تأثير ثورة اكتوبر الاشتراكية واضحا عنده، كونه اعتقد ان وصول البروليتاريا الى الحكم والسلطة، فان المجتمع سيتغير لا محالة ابدا، والا فان الرأسمالية وشرور سلطتها ستأكل كل الحياة بفرض ارادتها.
لقد تبدل الحزب الاشتراكي واصبح الحزب الشيوعي الايطالي يوم 21 يناير 1921، وغدا غرامشي سكرتيرا عاما له. هكذا اصبح هذا الفيلسوف الماركسي مرجعا مثقفا وعضويا لكل الحركة اليسارية الايطالية، وقد انتخب نائبا عن مدينة تورين بين عامي 1924- 1926، وهكذا اسس جريدة الوحدة الناطقة باسم حزبه.. كان غرامشي قد جمع الثقافة بالسياسة وجمع القيادة بالنضال.. وهذا ما لم يتح الا للندار من المثقفين.. لقد القى الفاشيون القبض عليه عام 1926 بتهمة التآمر على امن الدولة، وبقي مسجونا حتى عام 1937، وما ان خرج من السجن حتى مات بعد ايام قليلة بسبب تدهور صحته وبسبب زمن العذاب المرير الذي غيّبه وهو في عز شبابه على عهد موسليني الفاشيستي (ص 69 من الكتاب). ان اكثر من عشر سنوات قضاها غرامشي في سجنه تعد وصمة عار للنظام الفاشي في ايطاليا، وهو يسجن مفكر ملتزم ذكي ولم يعّبر الا عن الام شعبه ومعاناة كل المثقفين والعمال والفلاحين والكادحين.
مفاهيم غرامشي
لقد كتب غرامشي اغلب تأملاته وفلسفته وافكاره الناضجة في السجن التي نشرت بعد ذلك وكان جلها قد كتبها في (دفاتر السجن الاولى) و (دفاتر السجن الثانية).. انها تربو على ثلاثين دفترا والتي تضمّنت آراءه عن المجتمع الايطالي، وتفكيره في النظرية الماركسية وعوامل التغيير للواقع، واحكامه في الادب والنقد وتربية الاجيال.. ان ابرز المفاهيم التي التصقت به وعرفت عنه حتى اليوم: مفهوم الهيمنة الثقافية، ومفهوم المثقف العضوي، وكيف يتم التمييز بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني وشروط التغيير من اجل الاشتراكية.. كما وعرف بنظريته: الحتمية الاقتصادية ونقده للفلسفة المادية، وهنا يشبه كثيرا المفكر الماركسي الروسي بليخانوف الذي قدّم بدوره هو الاخر نقدا للماركسية. ان غرامشي يفسر الهيمنة الثقافية اقسى بكثير من الهيمنة الاقتصادية، فالثفافة البرجوازية المسيطرة يتبنى الجميع افكارها بالضرورة، وخصوصا الطبقة العمالية وتتلبس تصوراتها، فتغدو الهيمنة ثقافية وفكرية وليست مادية فقط. وعليه، فان الطبقة المهيمنة هي التي تتحكم بكل المجتمع من دون ان يعارضها احد (ص 102 من الكتاب). تحت عنوان"مشكلات الماركسية"يشير غرامشي إلى أن ماركس أبدع رؤية جديدة للعالم، وأنه لا يكفي اعتبار الماركسية"شكل تفسير"للتاريخ فحسب، بل مطلوب تطوير وبناء تصور أنطولوجي للعالم، نابع ومرتبط عضوياً بالتفسير التاريخي.
مشروع المثقف العضوي
اما مشكلة المثقفين فهي اساسية وجوهرية، اذ يرى غرامشي ان كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وهي وظيفة لا يمتلكها الا اصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس.. ومن هنا يستخلص الفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي.. الاول يعيش في برجه العاجي ويعتقد انه اعلى من كل الناس، في حين ان الثاني يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين.. وعليه، فان المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا امته.. ان اي مثقف لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وان كان يحمل ارقى الشهادات الجامعية
يكتب غرامشي:"يبدو لنا أكثر الأخطاء شيوعاً، هو البحث عن معيار التمييز في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين، بدلاً من البحث عنه في مجمل نسق العلاقات الذي تجري فيه هذه الأنشطة"ثم يردف المؤلف قائلا:"إن نظرية الهيمنة لدى غرامشي لا تنفصل عن مفهومه للدولة الرأسمالية التي يقول عنها بأنها تقود المجتمع عن طريق القوة وعن طريق التراضي في ذات الوقت". اما الدولة في رأيه فليست هي الحكومة، انها المجتمع السياسي حكومة وبوليس وجيش ومنظومة قانونية.. ومجتمع مدني يضم الافراد ومجالاتهم الاقتصادية. الاول يسير بطريق القوة والثاني يسيّر بالتراضي.. وهو يرى بأن الرأسمالية الجديدة عرفت كيف تلبي بعض الاصلاحات متجاوبة مع مطاليب النقابات والعمال خوفا من ان تأكلها الثورة الشاملة ضدها، فحافظت على مكانتها في قيادة المجتمع من دون ان تخسر شيئا.. انها ذكية جدا اذ التفت على اطروحة كارل ماركس التي تنبأت بانهيارها من خلال الثورة الشيوعية الشاملة عندما تصل البروليتاريا الى حد الجوع، وهذا ما لم تجعله يحصل (ص 123 من الكتاب)!
يرى غرامشي ان الحزب الثوري هو وحده القادر على تكوين طبقة جديدة من المثقفين العضويين المرتبطين بهموم الناس وقضايا العمال والفلاحين. ان هؤلاء المثقفون العضويون يمكنهم ان يشكلوا هيمنة بديلة عن الهيمنة الرأسمالية. ومن هنا نستطيع القول ان غرامشي هو الوحيد الذي اعتقد بأهمية المثقفين ودورهم في التغيير اذ كان يؤمن بانهم قادرون على صنع المعجزات اذا ما التزموا بقضية الشعب الاساسية التزاما عضويا وحيويا ويكمل غرامشي قائلا:"ان البورجوازية تخشاهم وتعرف أن نفوذهم كبير ولذلك تحاول أن تشتريهم بأي شكل"(ص 139 من الكتاب).

واخيرا: ما الذي أفادنا هذا"الكتاب"؟
هذا"الكتاب"لا يأتي بمعلومات جديدة، بل انه يتضمن رؤية من نوع خاص للفيلسوف المناضل انطونيو غرامشي، وهو كتاب متميز بفصوله الستة ويقدم تحليلات ممتازة للافكار التي بشّر بها غرامشي، بل ويجد المؤلف اننا حتى يومنا هذا بحاجة الى فكر غرامشي وخصوصا في الوقوف امام الهجمة الرأسمالية الجديدة التي لا يمكن ان يخفف من اكتساحها الا اولئك المثقفون الذين ارتبطوا عضويا بمجتمعاتهم. ان المثقف الحقيقي والعضوي اليوم هو عملة صعبة وصعبة جدا، اذ يكاد يختفي في خضم اولئك المثقفون التقليديون من طرف واغلبهم رجال دين وموظفين ومهنيين وحرفيين وكتبة.. الخ واولئك المثقفون السلطويون من طرف آخر واغلبهم من الكتبة والاعلاميين والصحفيين والفنانين والمحررين التابعين للسلطويين.. وهنا لابد من الاعتناء بالمثقفين الحقيقيين العضويين الذين يمكنهم ان يكونوا باعمالهم وابداعاتهم ونضالاتهم وترجمة معاناة مجتمعاتهم البديل الحقيقي.
• عن موقع الدكتور سيار الجميل