عزيز علي بقلم ( رئيس وزراء)

عزيز علي بقلم ( رئيس وزراء)

عندما اصدرالفنان الكبير عزيز علي كتابه (منولوجات عزيز علي) قدم منه نسخة الى رئيس الوزراء السابق عبد الرحمن البزاز ، فاجابه مقرضا :

من الاقوال الشائعة المأثورة عن احد فلاسفة الاغريق قوله: (مكني من تغيير موسيقى قوم اضمن لك تغيير اخلاقهم) ولا شك ان نصيب هذا القول من الحق عظيم، فالموسيقى، والغناء، والنشيد، وعلى العموم لكل ما يتصل بهذه الفنون الرفيعة المتعلقة بالنغم والايقاع، اعظم الاثر، في تغذية العواطف، وقل الطباع، واثارة المشاعر وتنمية الملكات، وترويض النزعات، وتهذيب النفوس وهذه بمجموعها عوامل فعالة في سلوك الافراد والجماعات.

ان اهمية هذه الفنون آخذه في الازدياد في العالم الحديث بسبب انتشار الوسائل الإعلانية والتسلية كمحطات الراديو والتليفزيون، ودور السينما، والمسجلات وغيرها وتسيرها للكافة. وفي هذا نعمة كبيرة لا يمكن نكرانها. على ان هذه النعمة قد تصاحبها، في الواقع، نعمة كبرى تعم المجتمع كله، وذلك حين اهمال هذه الفنون وتركها على حالتها البدائية، او حالتها التي هي دون الحالة البدائية، من تسيب واضطراب.. ويتسم الغناء في العراق بميزات اهمها: اولا- شيوع الانغام المريضة التي تثير الغرائز، وتشيع بين الاحداث من الجنسين خاصة معاني مبتذلة لا تنمي عاطفة كريمة، ولا تثير احاسيس رفيعة، وتدعو الى الخنوع، وتحبيذ التخنث، وتحيل عواطف الحب السامية الى مشاعر جنسية واطئة، واخطر من هذا كله انها تشيع روح العبودية والاستسلام. فالمحب لا يظهر اخلاصه لحبه الا اذا صار عبدا بين يديه، او تمرغ بين قدميه، او تمنى تمنيات تافهة لا تصدر عن نفس كبيرة، وروح شاعرة. ويتسم الغناء العراقي ثانيا، بشيوع الحان كئيبة تحيل الغناء الى مجالس عزاء، او ما يشبه المأتم وهي تدعو الى الضجر والاسترسال في الياس، بل انها لتستذرف الدموع احيانا والطابع الثالث للغناء العراقي، فقدانه للاصالة، فهو في الغالب تقليد في معانيه واساليبه وانغامه. واذا استثنينا المقام العراقي – وهو تراث قديم انتقل الينا من اجيال عديدة وسائر الى الضعف والغناء – لا نجد في الغناء العراقي اليوم اثرا من آثار التجديد، اللهم الا بعض الاناشيد التي صارت تعدها دار الاذاعة (المجموعة). ويقف بعيدا عن هذا التيار المحموم في العراق نفر قليل، يقف في الطليعة بينهم الاستاذ عزيز علي فيما ارى. اذ تمتاز مونولوجاته بالاصالة، وحسن الاداء، وعمق التفكير، وسمو الهدف. ففيها روح نافذة، وفيها استثارة مخلصة، وفيها فكرة اصلاحية تجددية. وعيبها انها قد نظمت بالعامية، ولكنها عامية محببة يوشك عمق معانيها، وجمال ادائها، ان يرفعها الى مقام الفصحى، وقديما قيل (ليس على المطرب ان يعرب). ولقد حاولت مع فريق من اخواننا حينما كنا نعمل في اللجنة الاستشارية لدار الاذاعة، ان نضع حدا لهذه الفوضى الغنائية، وان نجد في مكافحة هذا الداء الخبيث الذي يفتك بالارواح فتكا ذريعا، ولكن دونما طائل. فقد فشلت خطة الاصلاح التي كنا نعتزم تنفيذها، اذ هناك عوامل عديدة – ليس هذا موضوع سردها– تعمل على الابقاء على هذا الطابع المشين. وكان بعض ما وفقنا اليه هو تمكين الفنان الملهم السيد عزيز علي من العودة الى دار الاذاعة ليستمتع العراقيون وغير العراقيين بانغامه العذبه، ومعاني ازجاله العميقة، بعد ان حرموا منها لوقت طويل. ولكن سرعان ما حالت اوضاع (معينة) دون الانتفاع منه، ثم اعيد بعد ذلك لفترات قصيرة، وسمع مرات معدودات، ولكن سرعان ما اختفى صوته العذب من جديد. ولعل السبب الاساسي في هذا هو ان السيد عزيز علي كالبلبل الصداح لا يقدر ان يغرد في غير الاماكن الفسيحة، والحدائق الغناء، على حين يريده البعض ان يغني في اقفاص وهو يمقت هذه الاقفاص وان كانت من ذهب. ان الذي يستمع اليه، وهو يرتل (مونولوجاته) يستشعر عظم استغرابه بفنه، ويدرك هذا المعنى بصورة اجلى من يبصره يلقى قطعة فنية، اذ تنم كل جارحة من جوارحه عن المعاني الكبار التي يفصح عنها حينا، ويتمتم فيها احيانا حينما يرى ان الاشارة ابلغ من العبارة. ان في كثير من هذه المونولوجات فنا رفيعا، وتصويرا رائعا، وهي تصور المرحلة التي مرت على العراق في خلال ربع قرن، او يزيد، احسن تصوير، ففيها نقد اجتماعي انشائي، وفيها تصوير لطبائع الناس دقيق، وفيها دعوة للاصلاح شاملة، وفيها استثارة قوية مخلصة، وفيها دفاع بليغ عن الاحرار، وفيها دعوة للعروبة، وفيها تصوير مصائب الامة العربية جمعاء (اقرأ مونولوج السفينة، بستان، تهنا، صل عالنبي، اسكت، وفلسطين). ولقد وجدت في هذه القصائد صورا جميلة، ومعاني رائعة، ودعوة مخلصة، واني على يقين ان جمهرة كبيرة من العراقيين يشاركوني هذا الرأي. ان عزيز علي شخص موهوب حري بالاعجاب والتقدير.

= من كتاب منلوجات عزيز علي