عزيز علي واذاعة بغداد.. فن المنولوج وكيف عرفه مستمعو الاذاعة ؟

عزيز علي واذاعة بغداد.. فن المنولوج وكيف عرفه مستمعو الاذاعة ؟

سندس حسين علي

الموسيقى والغناء هما لغة الإحساس والشعور والعاطفة وهما أداة توجيهية يستطاع بها توجيه النشىء إلى الناحية الوطنية القومية، فالإنسان يميل بطبعه وفطرته إلى ترديد ما يسمعه من غناء وأناشيد، ولما عرف العراقيون بحبهم للموسيقى والأغاني الشعبية..

لذا فقد وجهت وزارة الداخلية من مديرية الدعاية والنشر إلى المتصرفيات كافة بالبحث عمن اشتهر بذلك الفنين من سكان المدن وأفراد العشائر وإرسالهم إلى بغداد. لما كان الغناء أداة توجيهية، فقد اشتهر نوع من الغناء في العراق، وهو فن (المونولوج). اهتمت الإذاعة العراقية بذلك الفن الجديد، لإقبال الناس عليه، فتقدم الفنان علي الدبو. بمونولوجات استهدفت بالمقام الأول نقد الظواهر الاجتماعية السائدة آنذاك.وكان الدبوقد بدأ بغناء المونولوج, بين فصول المسرحيات التي كانت تقدمها فرقة (حقي الشبلي) التمثيلية أول مونولوج له من دار الإذاعة كان عام 1938 بعنوان (الطلاق) كما قدم الفنان عزيز علي، مونولوج من دار الإذاعة وكان مونولوجاً اجتماعياً، موضوعه بسيط لا يثير الجدل والأقاويل عن عادة القبول( جلسة نسائية تجمع خليطا من المتزوجات والعازبات والبنات والأمهات )، فقد هاجم عزيز علي يوم القبول ووصفه بأنه شغب نسائي وغيبة، وانتقل عزيز علي بعد ذلك بالمنولوج إلى موضوعات أخرى، ناقدا في مجالات اجتماعية عدة وقد نجحت نجاحا كبيرا ونال الفنان عزيز علي شهرة واسعة، ثم انتقل في المونولوج إلى موضوعات سياسية، ووضع كلماتها بأسلوب ينطوي على عدة معان في المونولوج الواحد، فهو سياسي وليس بسياسي. وبشر بذلك بمونولوجه (الراديو)

الراديو ينور الأفكار

الراديو يفتح الأبصار

الراديو ينقل لخبار

الراديو يفضح الأسرار

ما دام ينور لفكار، ما دام يفتح لبصار،

ما دام يفضح لسرار، يعني يضر الاستعمار... يحيا الراديو

أحدثت مونولوجات عزيز علي، ردة فعل لدى المستمع واخذوا بالتنبه إلى أعمال الحكومة، وبالتالي ينتقدون أعمالها، وأصبح اسم عزيز علي يهز الشعب هزا... سواء كانوا طلبة في الابتدائية أو المتوسطة قبل الأربعينيات وبعدها، فيوم موعد قراءة مونولوج عزيز علي يعد يوماً مشهوداً، ففي تلك الأمسية تجتمع النسوة في إحدى الدور... ويجتمع الرجال في المقاهي، ويقترب الأولاد من المقهى وكلهم إنصات لعزيز علي وصوته يجلجل نص الليل.. فزيت من نومي، شلكي ألكيلك هوسه بمهجومي.. الخ وتتعالى الضحكات.

أما على الصعيد الرسمي فقد أخذت تلك الفئة بالتنبه إلى خطورة ما يقدمه عزيز علي من دار الإذاعة وما لذلك النقد المبطن للحكومة من تأثير على المستمع العراقي .ففي الثالث عشر من كانون الأول 1950 كان الفنان عزيز علي يلقي مونولوجه الثالث وهو - مونولوج السفينة- ومونولوج صلي على النبي- ومونولوج اسكت لتحجي، من دار الإذاعة... تلك المونولوجات المثيرة...وإذا بالمهندس ناجي صالح يدخل بصورة مفاجئة على الفنان أثناء إلقاء المونولوج، وأسره في إذنه إن نوري السعيد قد جاء إلى الإذاعة، وانه في حالة عصبية

وحينما انتهى عزيز علي من إلقاء مونولوجاته ،استدعي لمواجهة- نوري السعيد- ولما سلم على - الباشا -رد عليه السلام باقتضاب، وانفجر يلوم الفنان قائلا له بالحرف الواحد: ليش تتداخل بالسياسة؟ فرد عليه الفنان قائلا: باشا يا سياسة أني فنان...مو سياسي... فسال السعيد: طيب إذا أنت فنان أذن ليش مترضي الناس والفنان يونس الناس، يغني لهم ويزيل همومهم ويفرحهم...؟ ثم سأله ما معنى كلمة (جي)، وماذا تعني بعبارة :أخر كل علاج الجي - والمن تريد بـ (الجي)؟ فأجابه عزيز علي: والله يا((باشا)) لم أعن بذلك شخصا معينا بالذات، فسأله: مرة أخرى، ماذا تقصد بمختار ذاك الصوب من هو؟ أجاب عزيز علي: انه مختار من مخاتير الرصافة لأنني اغني في الكرخ والمقصود الصوب الأخر)). وقد تخلص عزيز علي من ذلك الموقف، لأنه كان يقصد السفير البريطاني (مستر كولن والز)، والذي عاد إلى السفارة البريطانية بعد فشل حرب آيار1941. فما كان من نوري السعيد إلا أن ترك الإذاعة ومعه مجموعة من مونولوجات عزيز علي، ولم يلبث أن عاد مرة أخرى ليطلب من عزيز علي عما إذا كان يحمل معه مجموعة من أزجاله ذلك لان - الباشا - خيل إليه وقد رأى عزيز علي أمام الميكرفون من وراء زجاج - الكونترول - يبدو منسجما بالإلقاء دون أن يحمل بيده ورقة ما...يقرأ فيها...فظن أن عزيز علي إنما يرتجل تلك الأهازيج ارتجالا، إذ قال أمام مشهد من موظفي الإذاعة مستفسرا (هذا شلون ديحجي من كلبه؟).

عرف عزيز علي المعتقلات والمنافي وخبرها وذاق الأمرين فيها. فلم ينم الفنان ليلتها... وبات ساهرا في تصفية أمور بيته وعائلته تمهيدا للاعتقال، أو السجن اللذين كان يتوقعهما في اليوم التالي... وفي اليوم التالي استدعاه نوري السعيد، مع مدير الدعاية وكان يومئذ كمال إبراهيم، واستدعى معه مدير الإذاعة- حسن الدجيلي الذي لم يحضر المقابلة،إذ انسحب الدجيلي من الوظيفة بدون تقديم استقالته احتجاجا على ذلك التعسف، ويعود إليه الفضل في إلقاء المونولوجات الانتقادية من دار الإذاعة في ذلك العهد... والى التشجيع الذي كان يلقاه عزيز علي منه، فقال نوري السعيد للفنان عزيز علي:

((يا أخي أنت الله ناطيك هالموهبة تصفط الكلمات مثل متريد... لازم لا تثير الناس ولا تبجيهم... الرجال يخلقون... والأوضاع تتحسن... وتنظم مونولوجاتك فتبشر بالمستقبل))، وصرف عزيز علي بكلمات أعجاب.

طلب عزيز علي من مدير الدعاية كمال إبراهيم، إلا يدرج أسمه في المناهج الإذاعية حذرا من أن يصيبه مكروه أو سوء... إلا أن اسم عزيز علي كان مدرجا في المنهج الشهري إلا انه لم يحظر لإلقاء مونولوجاته في الوقت المعين...فشاع في الأوساط الشعبية أن- نوري السعيد - قد سجنه وبدافع تلك الإشاعة وخشية أن يظن نوري السعيد بعزيز علي سوءا، اضطر عزيز علي في الأسبوع التالي أن يحظر إلى الإذاعة في الموعد المقرر لإلقاء مونولوجاته، فوجد أن مدير الدعاية العام ومدير الإذاعة، قد استبدلا وألقى في تلك الحفلة مونولوج (الفن) ، ثم منولوج يا حسن بالصيف ضيعنا اللبن، ثم ترك الإذاعة لبضعة أشهر... ثم استدعى مرة أخرى لمزاولة ذلك الفن الغنائي.

بلغت جرأة الفنان عزيز علي حينما كان موظفا في وزارة الأعمار، وكان واجبه أعداد الدعاية لمشاريع الأعمار يومذاك، إذ أعلنت الحكومة أنها ستقوم خلال الأيام القادمة، في بناء الدور لتوزعها على المواطنين (دار لكل مواطن وتلبية الحاجات الأساسية لكل مواطن، كان نتيجة ذلك هو بناء عشرات من الدور هنا وهناك في نواحي بغداد أقيمت دون تخطيط ودون تنسيق إذ كانت الشركات الأجنبية والمحلية تنهب الملايين من أموال الدولة والمسؤولون كانوا يتقاسمون أرباحا علنا وجهرا فأشار الفنان إلى مهازل تلك المشاريع.

والطرق من حمد الله لما بجت كل البلاد

كلها (منتظمة) و(عدله) وانبت كل هالسداد

يا عرب أنطوها مهلة أنا أراهنكم رهن

العراق يصير فله بعد مدة من الزمن

ذلك مما يدلل على ملل الناس بالدعاية لمجلس الأعمار الذي لم يتحقق منه شيئا على الرغم من تأكيد التصريحات للمسؤولين العراقيين بالإنجازات العظيمة التي حققتها على صعيد مجلس الأعمار.

وبذل جهدا كبيرا لتمرير مطالب الشعب العراقي عبر الإذاعة والتي تطالبه بمزيد من التحريض الثوري، فعمد إلى بث مونولوج بدا وكأن الإذاعة هي التي كلفته بمعالجة تلك المواضيع الحساسة تنفيذا لإرادة الجماهير إذ قال:

أني كلبي مشلوع لازم بكل أسبوع

يا ليتني بهالاذاعة كون احضر موضوع

تكلي أحجي بكل صراحة والصراحة لها حدود

هذي والله سماحة من الإذاعة وهذا جود

يا عرب تره الفصاحة والحجي الموزون فن

وبعضا اليحجي بصراحة يأدي خدمة للوطن.

= عن رسالة (توجهات الإذاعة العراقية الوطنية 1936-1958).