ساحة التحرير: النصب والكابوس والمظاهرة  1-2

ساحة التحرير: النصب والكابوس والمظاهرة 1-2

 زهير الجزائري
ذاهب للقاء الصحبة أو عائد منهم في الليل المتأخر لابد لي أن أخترق الساحة. أمشي في محيطها فتعزلني الوحدة وسط الحشد المتقاطع بكل الاتجاهات. الساحة فتحت للماشين دائرة مكشوفة في مدينة صنعتها الأزقة الضيقة. في فضائها يحدد الماشون اتجاهاتهم وعلى بلاطها يسيرون لينسوها. الحركة الدائبة في الساحة وتقاطع الشوارع تخفي المعنى الرمزي كـ(ساحة حرية) يجسدها النصب. ننسى معناها وتصير مجرد مكان لوقفة قصيرة.

كثير من الأسئلة تنفتح وتمس القلب حالما أدخل هذا الفراغ الدائري المفتوح على الاحتمالات. بدلاً من أن تربط ، تفصل (ساحة التحرير) التراث الممتد على طول (شارع الرشيد) عن الحداثة المسروقة منه إلى شارع السعدون. تفصل النصب عن الناس الذين يفترض أن يروه. تفصل الناس باتجاهات مختلفة. تفصل التواريخ بأحداثها الكبيرة. وتفصل الأحاديث عن مقدماتها. حين نلتقي وقد تقاطعت طرقنا تكون أحاديثنا قصيرة. نترك المقدمات ونذهب رأساً إلى الأحكام. في يوم شتائي بارد التقينا القاص (حامد الهيتي) تحت النصب، سكران كعادته. وبصوته الأجش مثل طبل مشقوق يردد بتكرار:
-مستحيل، مستحيل، مستحيل!
-ما المستحيل يا حامد؟
-أصلع ويرتدي رباطاً ويدعي إنه شاعر…
-من هو ؟
سألناه ونحن نقطع نحيبه.
-…

عند تأسيس الساحة حملت الحديقة التي تقع خلفها اسم الملك المنحوس غير الجدير بمنصبه (غازي).الجسر الذي يربط الساحة بالنهر الذي افتتحه (الملك فيصل الثاني) في العام 1957 حمل اسم الملكة (عالية).. هذه الأسماء أزيحت بنقائضها في العهد الجمهوري.
الدائرة انكسرت مرّات. أعيد تصميمها في العهد الجمهوري لتصلح مكاناً لعرض جماهيري. في طرفها المقابل لشارع السعدون منصة يجلس عليها الزعيم لتحية الجماهير وهي تتدفق لتقدم الولاء. أتذكر حركته القلقة على المنصة مسحوراً بالحشد وخائفاً في الوقت نفسه من قتلته وقد تواروا فيه. أنيرت الساحة بمصابيح كشّافة لكي يرى كل واحد ذاته وهو يدخل الضوء. في وسطها أحاول أن أضبط استقامة خطواتي فينكشف السكران تحت الضوء الساطع. وحدي أو مع رفيق درب نقطع الساحة مسرعين. حين أصير في المركز والنصب إلى يميني يقفز أمامي مصور فوتوغرافي وينفجر ضوء الفلاش فأغمض عيني. ضاعت كل صوري وأنا وسط الساحة بين الأم المفجوعة والحصان الهائج. وسط الدائرة أو في محيطها جنود بعدتهم الكاملة يحرسون فراغ الساحة و سرها القادم. كنت وأصدقائي ندور حول الساحة ونتجنب اختراقها من الوسط. وقد جعل (الزعيم) من حديقة غازي التي شخصت فيما بعد خلف النصب أقل مهابة وأكثر ألفة لتسمى (حديقة الأمة) حيث تمثال الأم الواقفة وهي تحمي من العاصفة إبنها المختفي خلفها. في الحديقة المنخفضة عن مستوى الشارع سياج من الأس ونافورات ومصاطب تعطينا فسحة للراحة. نجلس على مصطبة وبأيدينا قناني البيرة فنشعر إننا في قلب المدينة النابض بالحركة. مع ذلك لا أتذكر نفسي جالساً فيها.
ما عادت الساحة كما كانت مكانا للوقوف والفرجة. تكيفت مع روادها. بالكاد أتخيل خروج العوائل من الدور الأخير في (سينما غرناطة). بعد أن شاهدوا قصص الحب لبسوا معاطفهم وخرجوا يسيرون الهوينا والأخيلة لاتزال تترجع في دواخلهم راغبين بالصمت ليستمرئوا العاطفة التي تركها الفيلم في دواخلهم. رؤى لا يؤمنون بها، تهتز مثل سلك تحركه الريح،لا علاقة لها بالفيلم ولا بالحياة حولهم، وهي وليدة الإثنين. في الجانب الثاني المحاذي لـ(لبتاويين) حيث يسير بالقرب منها القواد إبراهيم بشعره السبط المدهون ذهاباً وإياباً وهو يدخن. حين تسأله عن واحدة يجيبك برصانة رجل الأعمال:
-عندي منهن ست وثلاثون؟
النصب شكّل الساحة وتشكّل بها. أنا وصحفي أجنبي كنا ننزل الجسر وقد غادرنا (المنطقة الخضراء) "Waw!"هتف الصحفي الأجنبي وهو ينظر الى النصب وسط الساحة وربت على كتف السائق الشاب يريد منه التوقف."مستحيل" ليس في الساحة مكان للتوقف. نحن نرى النصب ماشين على عجل. الأحداث والأحاديث تجري تحت النصب أمامه أو خلفه، ولكن على عجل. تحته وقفنا (سركون بولص) وأنا لنتعرف على (محمود البريكان) الذي كان عابراً الساحة وحده. قبل أن نسأله عما إذا كانت لديه قصائد لم تنشر قطع الحديث شخص رابع. أشار للنصب بدون أن ينظر إليه:
-ما رأيكم به؟
كوننا منكشفين وسط إنارة النصب الساطعة فقدنا حرفة استعمال الكلمات. بقينا صامتين ننتظر(درة) سائلنا.
-…
-على عكسكم.أنا لا أحبه. مجرد حركات متشنجة.
رفعنا رؤوسنا لنرى النصب فوقنا من غير أن ندقق في تشنجاته، فقد صار بالنسبة لنا بديهية. ليس هذا مكان لنقاش جدي. هذا مكان للماشين. النصب فيه مصادفة. لم يكن النفق قد أنشيء بعد ليضيق الحيز المتاح لرؤية النصب.
-لو كانت هذه اللافتة من قماش لأدرتها للخلف.
قالها وذهب…

منصــة الـــموت
الساحة بفراغها الواضح المكشوف مهيأة لأحداث كبيرة. كنت أمشي في الساحة حين حاذاني أفندي يرتدي الفيصلية تتقاطع ساقاه من شدة السكر. قالها بدون أن يلتفت إلي:
-هنا(مشيرا بإصبعه الى البلاطات التي أدوسها) سيجري دم كثير.
في الدائرة التي تمثل اكتمال العلاقة بين الإنسان والكون نظم البعث يوم الأثنين السابع والعشرين من كانون الثاني سنة 1969مهرجاناً سيكون بداية للرعب التأريخي الشامل.
كنا أنا وسعاد في بيتنا في الوزيرية حين سمعنا دوياً وهتافات. نظرت من النافذة فرأيت طابوراً من الطلبة تجمعوا من عدة كليات وجامعات يتجهون نحو مركز بغداد. في تلك الأيام التي تلت مجيء البعث للسلطة تعودنا على الأحداث الكبيرة. نسير في الشوارع ممسكين بأيدي حبيباتنا، ساحرين ومسحورين بالحب ونحن نجهل مايجرى من أحداث خفية. البعث وأجهزته السرية الساهرة مفتوحة العينين يكشف لنا، نحن الغافلين، جواسيس و مؤامرات تجري من خلفنا. أحاطنا بمجال مغناطيسي من التهيؤ لأحداث كبرى ستحدث أو تحدث الآن حولنا ونحن لا ندري. بين فترة وأخرى يظهر في التلفزيون أشخاص يشبهوننا و يتكلمون بلغتنا وبلهجتنا العراقية، يعترفون بأنهم خونة وإنهم كانوا أطرافاً في مؤامرات تديرها من وراء الحدود دول كبرى.
أوصلت سعاد الى المفرق الذي يؤدي لبيتها في (الصليخ) دونما كلمات. تنغصت سعادتنا بهذا المجال المغناطيسي الغامض. ذهبت كما في كل يوم للقاء أصدقائي في المقهى فقاطعني الموت.

نظّم مهرجان الموت على شكل ثلاثي:
-في شرفة وزارة الثقافة المطلة على الساحة وقفت قيادة البعث ووسطهم النجم الصاعد (صدام حسين ). من تحت نراهم صغاراً برؤوس مدببة فوقهم السماء شاهدة على وجودهم الصارخ.
-أمامهم تحت الشرفة وسط الساحة علقت في عوارض سلسلة من الجثث على شكل قوس مفتوح لجثث قادمة.
-بين الشرفة والساحة تمر الحشود على شكل كراديس يقودها هتافون مهمتهم أن يرفعوا حالة العصاب حالما يمر الحشد في المجال المكهرب بين الجثث و القيادة. يصرخ الحشد وهو يعيد الهتاف ملوحاً بقبضاته. يبهت الوجه ويكتسي سحابة رمادية حين يرى الجثث، وقبل أن ينسى يعيده الهتاف لحماسة الحشد: جواسيس!
وسط هذا الطقس الشامل يفقد الفرد نفسه، يفقد أسئلته وشكوكه ويصير جزءاً من العصاب الشامل الذي يحركه اليقين بأنهم : جواسيس!
يرفع القياديون أيديهم متضامنين بفخر: هذا الموت إنجازنا وسيليه موت آخر و آخر …غير دارين بأن هذه الطاحونة ستدوسهم قريباً. عيني موزعة بين الثلاثة، الكورس السعيد في الشرفة، الحشد الذي يحول الخوف إلى حماس والجثث وسط الحشد ، ويعزلني عنهم غضروف من القرف والبلادة. أغادر مشهد الجثث، لكنها تجذبني بمغناطيس عجيب كأنها تريد أن تقول لي بصمتها سراً لا يعرفه الآخرون. أحاول أن أفلت من الحشد لكني أنحشر بأجساد الآخرين فأفز من ملمسهم. عيناي علقتا بالجثث وقد تدلت من العوارض باسترخاء تخيم عليهم غيمة رمادية في وضوح الساحة الصارخ. الحبال تشد الرقاب والوجوه مزرقة رمادية متجهة نحو سماء شديدة الزرقة ولون حليبي ساطع يزيد المشهد وضوحاً. خُيل لي أن الجثث تهتز مع ضجيج الهتافات، لكنها لا تسمع فقد خيم عليها صمت الموتى. بعض هذا الصمت صم أذني.
خارج الحشد المنظم متفرجون يأكلون "السندويشات" على مرأى من الجثث، وهناك إمرأة شعبية تتوسل جندياً يحرس الموت ليسمح لابنها الصبي بأن يقترب أكثر من الحد المقرر. ورأيت عند استدارة الساحة شاباً ترنح من صدمة المشهد. وقبل أن يكتم فمه بيده مال على الرصيف وتدفق القيء. لم يتحرك الجندي الواقف قريباً في حالة استعداد وقد لوث القيء بسطاله، لكن حشداً من المتظاهرين التموا ليغطوا عار ما فعله زميلهم. هدير الحشد ومكبرات الصوت تقطع عليّ فكرتي والسؤال المحبوس في داخلي: من يعرف صحة الجرم؟ بالنسبة للحشد في الساحة لاضرورة للتحقق. كونهم يهود و(عملاء لإسرائيل) يجعل الأمر مؤكداً ومقبولاً. أنظر الى الوجوه فأرى جحوظ العيون وتوتر العروق. مامن أسئلة. سرعة التصديق وانتظار المخلص من مفرزات الهزائم الوطنية. نحن نحارب إسرائيل هنا، في دواخلنا وننتصرعليها بتعيلق(جواسيسها) والشماتة بهم. نرميهم بالأحذية والحجارة. لا تهم طبيعة الجرم الذي أرتكبه المعدومون. ولا صحة الجرم وعدالة العقاب.
أبحث عن موطئ لقدمي وبصعوبة أحشر جسمي في الفراغات لكي أكسر الدائرة البشرية وأخرج مثل نقطة أفلتت من مسارها.أسمع وأنا أبتعد صوتاً حاداً كما السكين يقول للحشد:
-هذه وجبة أولى وهناك وجبات قادمة…
لا يكفي أن تكون معرفة الجمهور بالعقاب ضمنية يدركها المواطن بالعقل. عليه أن يدرك العقاب بالحس المباشر. يراه بالعين في وضوح النهار مزرقّاً رمادياً ويشم رائحته الخانقة، رائحة القبر والفضيحة، بل ويستطيع إذا أراد أن يلمسه باليد أو يؤرجح الجثة.
أسمع هدير الجمهور وهلاهل نساء( المزيد ، المزيد، المزيد)…
لم يفارقني المشهد أياماً. فقد نبت الموت في مخيلتي وأنا أعبر الساحة كل يوم ذاهباً الى الصحبة أو عائداً منها آخر الليل.. في الليالي الشتائية أقترب من الساحة وقد وضعت يدي في جيب معطفي، أتشاغل بالناس المسرعين لبيوتهم في شتى الإتجاهات أو بالأرض المبلولة وهي تعكس أضوية الشارع. حين أصل الى الساحة يخيل إلي أن هناك شيئاً رمادياً مزرقّاً مفقوداً في الساحة. قلبي يعصرني وأنا أبحث عنه أو يبحث عني. كأن جثة ستقفز من الحديقة وتأخذ لي صورة ثم تختفي. الورقة التي تطيرها الريح على أرض الساحة ستدلني على شيء خفي أو تحمل لي تحذيراً. المكان يذكرني بالغائب، وهو الجثث المعلقة و لازمتها، وهي الحشد: كيف حولوا الخائفين الى مخيفين؟! هل هذا ما أرادوه من مهرجان الرعب؟ لقد نجحوا إذن! دخلت الجثث في مخيلتي تتأرجح في الحلم حين أنام وأحسها باردة حين ألمس جسد حبيبتي العاري، وأشمها في جسدينا، وأذوقها مرة مالحة في طعامي.
مددت الساحة طولياً في روايتي(حافة القيامة) وعلقت الجثث على مصابيح الشارع."تهتز الجثث وتدور حول نفسها وتتقارب في نوع من أخوة الموت الهامسة التي تسخر في صمتها من كل ما حدث… لكل جثة تعبيرها الخاص.. مائلة، متصلبة، أدارت للرائي قفاها، مرفوعة الرأس أو منحنية إلى الأرض … أقدامها مصفوفة بتصلب أو منفرجة باسترخاء… قلت وكأنني أتشفى بنفسي : فلتمتع عينيك، أيها التعيس، بهذا المنظر الرائع!".
…تغير مشهد الساحة كثيراً. شرطيات أنيقات انتشرن في مكان العسكريين الجهمين، ثم أختفين من الساحة بسبب عدم وجود مباول نسائية. مسرح الموت غطس تحت الأرض وتحول الى نفق لا يدخله أحد ودكاكين بلا باعة ولا مشترين، مكان يشبه قبراً لموتى قادمين. تغيرت حديقة الأمة متحولة إلى مزبلة قناني كحول فارغة، لكن ساحة الطيران في الجانب الثاني من الساحة بقيت على حالها، معرضاً للفقر الناشب أظفاره فيها.. شحاذون أطفال يتعلقون بالسيارة من دون فكاك. لا يعولون على الشفقة بل على الإستسلام، باعة شوربة العدس يعالجون الجوع والبرد، عربات الملابس المستعملة، الجنود الساهرون بانتظار الشاحنات التي ستقلهم لجبهات الحروب، لاعبو الورقات الثلاث، وعمال المسطر حاملين مساحيهم بانتظار العمل أو الانتحاري الذي سيفجرهم.

أيام المفقودين
في الأيام الأولى بعد 2003 احتل المفقودون حياة الموجودين مع انفتاح الكوى في ذاك العالم السري الذي سمعنا فيه الحكايات التي ترويها السلطة ولم نسمع الحكايات من الضحايا.المفقودون أصبحوا قريبين قيد المنال وصار البحث عنهم ضربا من الجنون الشائع. السجون السرية كانت هاجس العراقيين، سواء منهم الذين تغافلوا طوال العهد السابق عن وجودها أو الذين حوموا حولها خائفين أو باحثين بتوسل عن أقرب الناس إليهم وقد اختفوا وراء جدران هذه الأبنية الغامضة (الداخل فيها مفقود ). من حاجتهم ومن توهمهم يكتشف الناس بين فترة وأخرى سجناً خفياً في مزرعة، تحت دائرة رسمية، في سرداب واحد من القصور الرئاسية ... تطير الشائعة بسرعة البرق فيهرع أهالي المفقودين، بينهم هذه الأم الريفية التي كانت تسير بخطوات أقرب الى الركض وهي فاحطة، ويداها ممدودتان الى الأمام وعباءتها السوداء تطير خلفها.
في أيام البحث هذه طارت شائعة بأن في مدخل النفق باباً حديديأ يؤدي الى سجن خفي..هناك كل المفقودين الذين لايعرف الأهل مصيرهم بعد أن اختطفتهم السلطة. موقع السجن كما تخيلوا تحت الساحة التي علقت عليها الجثث. أمهات وآباء المفقودين هرعوا الى هناك. داخل النفق حاول شبان عنيدون اقتلاع الباب الحديدي وأحدهم ينادي:
- جيناكم !
يأتيه صدى صوته ” جيناااااكمممم…“ فيتوهم أن هناك من يرد على ندائه من تحت. لكن في نهاية يوم شاق ومتوتر لم يخرج أحد ولم يرد أحد على نداء المنادين.
ساحة التحرير التي كانت مركزاً للسلطة والمكان الرمزي لنصب الحرية صارت بعد 2003 مركزا للقتلة واللصوص وباعة المخدرات وحبوب الفاياغرا المغشوشة في البسطيات المفروشة حول نصب الحرية. هم الذين يحكمون المركز ويقيمون فيه سلطة اللا قانون. غياب السلطة خلق نوعاً من انتشاء الذات داخل عالم لا عقلاني تشكله ذوات منتشية بحرية بلا محرمات وتتشكل ثانية منه. هنا، حيث يختلط الكل ولا يعرف أحد الآخر، ترتكب أكبر الجرائم. على السيارات أن تمر بسرعة وحذر لأن أحدا لن يُنجد أحداً إذا سُلب، ولن يسأل عنه إذا قُتل. تحت نصب الحرية و حيث تنحني الأم مفجوعة على ابنها الشهيد، رأينا جسدي صبيين حافيين مطروحين على صناديق كارتون وغطيا بصناديق أخرى. الصبيان قتلا قبل دقائق من وصولنا. لم يهرب القتلة الملثمون، إنما اخفوا مسدساتهم وانسلوا داخل الحشد، وربما هم بيننا الآن يتفرجون على قتيليهما. الدم ما زال يشخب من ثقوب الرصاص و يسيل خيطاً على بلاط الرصيف الى عرض الشارع . حول الجسدين وقف حشد من الناس يناقشون سبب القتل، بعضهم أحاله الى تصفيات ثأر، وبعضهم قال بأن (الحواسم) بدأوا يصفون بعضهم بعضاً بسبب الخلافات على الغنيمة. لم يمد أحد يده لرفع الجثتين، إنما يرفع غطاء الكارتون عن الوجهين ويعاد ثانية من غير أن يتعرف عليهما أحد. بقيت الجثتان ممددتين تحت شمس ساطعة لحد الوهم . الجميع، ومنهم نحن بقينا ننتظر سلطة غائبة.
غير بعيد عن الجثتين فرش كهل صندوق كارتوني وهو يبيع بضاعته: "باسبورات" عراقية مرزومة. يقسم اليمين بأنها غير مزوّرة، وإنما مسروقة من الدولة. ما على المشتري إلا أن يعطيه صورته ويملي عليه الإسم الثلاثي والميلاد والمكان ... بعد ذلك يخرج البائع من جيب سترته الختم مؤكداً أمام حشد الواقفين بأن الختم هو ختم الدولة الأصلي ثم يختم الجواز :
- سافر بالسلامة !
ينجز المعاملة وهو كما هو، جالس على الأرض في الفضاء العاري مختصراً على زبائنه مشقة الوقوف في الطابور الطويل وسلسلة الموظفين الجهمين والروتين المعذب في دوائر الدولة، لاغياً الخوف الملازم من أنك ممنوع من السفر .
وأنا أراقب هذه الفوضى تأكدت من الخطأ الكبير: ما كان ينبغي أن نبدأ بالديمقراطية أولاً، قبل ذلك كان علينا أن نبني دولة لها أسنان. كل الذين أفزعتهم الفوضى والجرائم قالوها بوضوح : نحن العراقيين لم نعرف الديمقراطية في حياتنا،لا ينبغي أن تُقدم لنا دفعة واحدة ..