المهاتما غاندي .. وقوة اللاعنف التي لا تقهر

المهاتما غاندي .. وقوة اللاعنف التي لا تقهر

حسونه المصباحي
كاتب مغربي
في الأوقات العصيبة التي تتميّز بالعنف والحقد والبغضاء والفتن، وفيها يلجا الأقوياء كما الضّعفاء إلى القوّة لتصفية حساباتهم مع خصومهم البعيدين أم القريبين، يكون الزعيم الهندي غاندي الذي لقّبه أهل بلاده بـ”الماتهاما” أي “الرّوح الكبيرة”، واحدا من السياسييّن والمفكرين القلائل الذين تستحضرهم الذّاكرة الإنسانيّة. فهذا الرّجل الذي ولد في العام 1869،

والذي نَذَرَ حياته للنّضال من أجل استقلال بلاده، مواجها بالطرق السّلميّة الإمبراطوريّة البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، كان من دعاة السلام والصّداقة بين شعوب الأرض، ومن الرّافضين للعنف والقّوة. ولا تزال دروسه وحكمه في مجال السياسة حيّة في ذاكرة الأمم قاطبة. لذا لم يكن من الغريب في شيء أن يلقّبه الكثيرون بـ”مسيح القرن العشرين”.


ينتمي غاندي إلى عائلة نبيلة كانت تحتلّ مكانة مرموقة في “بورباندار”، وهو ميناء صغير شمال مومباي .وكان والده “كارا مشاند” وزيرا أوّل لدى الأمير الذي كان يحكم المدينة. وكانت عشيرته تنتمي إلى طبقة “سامية”، هي طبقة التجّار المسمّين بـ”البانيا”.
وقد تزوّج غاندي الذي كان اسمه آنذاك موهنداس وهو في الثانية عشرة من عمره من فتاة فائقة الجمال غير أنها كانت أميّة، وقد ظلت تلك الفتاة زوجته حتى النهاية، وفي ما بعد سوف ينتقد غاندي الزواج المبكّر، موجّها اللّوم إلى والده الذي أجبره على ذلك.
في لندن حيث دَرَسَ القانون أصبح غاندي نباتيّا، كما اكتشف المسيحيّة، وقرأ الإنجيل بشكل جديد مُسْتلهما منه دروسا ومواعظ كثيرة في الأخلاق، والسياسة، وفي أفريقيا الجنوبيّة حيث عَمَلَ محاميا على مدى عشرين عاما، وجد نفسه مجبرا منذ البداية على مواجهة العنصريّة البيضاء. وثمّة حادث كان له تأثير حاسم على تفكيره وعلى فلسفته في الحياة وفي السياسة، حدث ذلك في القطار يوم 21 مايو-أيّار 1893.
وآنذاك كان غاندي في الرابعة والعشرين من عمره، وكان من ركّاب الدرجة الأولى، غير عالم بأن القوانين العنصريّة تحرّم عليه ذلك، وفي لحظة مّا قام أحد الركّاب البيض بالتّبليغ عنه، وبالرغم من أنه كان قد دفع تذكرته، وكان يرتدي بدلة أنيقة، فإنّ غاندي طرد بالقوّة من العربة، وتمّت إهانته بشكل فتح في روحه جرحا سوف يظلّ مفتوحا حتى وفاته، وذلك الجرح هو الذي دفعه إلى الشروع في النضال من أجل حقوق الهنود الذين كانوا كثيرين آنذاك في جنوب أفريقيا، وقد نصحه البعض باللجوء إلى الكفاح المسلّح غير أنه رفض ذلك رفضا قاطعا. ولعلّ قراءاته لأعمال الروائيّ الرّوسيّ تولستوي هي التي “أنقذته من داء العنف” بحسب تعبيره، لذا فضّل منذ البداية النّضال بالطرق السّلميّة، مؤسّسا حزبا، ومُصدرا جريدة “أنديان أوبنيون”.
حادث شخصي دفع غاندي إلى النضال من أجل حقوق الهنود الذين كانوا كثيرين آنذاك في جنوب أفريقيا، وقد نصحه البعض باللجوء إلى الكفاح المسلح غير أنه رفض ذلك رفضا قاطعا، وكانت قراءاته لأعمال الروائي الروسي تولستوي هي التي "أنقذته من داء العنف" بحسب تعبيره، لذا فضل منذ البداية النضال بالطرق السلمية، مؤسسا حزبا ومصدرا جريدة "أنديان أوبنيون"
وشيئا فشيئا أصبح سياسيّا معروفا ومحاميا ناجحا، وفي عام 1906، ثار “الزّولو” ضدّ البريطانيّين. وقد تعاطف غاندي معهم غير أنه ارتأى أن الحكمة السياسيّة تقتضي منه أن يظهر مولاته للإمبراطوريّة البريطانيّة، وفعلا قام بذلك. ففي تلك الفترة لم يكن يفكّر في المطالبة بالاستقلال، وكان هدفه الأساسي هو الدفاع عن حقوق الهنود المدنيّة، لكن من داخل النظام، وليس من خارجه.
لهذا السبب تطوّع في الجيش البريطانيّ كممرّض، وواجه “الزولو” المتمرّدين. وكانت المعارك قاسية وعنيفة ودمويّة، وقد عاين غاندي مشاهد مروّعة كان فيها العنف بارزا وطاغيا بشكل مخيف، وأمام تلك المشاهد حدثت الصّدمة العنيفة التي ستقوده إلى الضّوء، الضّوء الذي سيغيّر حياته تغييرا جذريّا، وفي ما بعد سيكتب قائلا بأنه اكتشف الحقيقة فوق أرض المعركة، واهتدى إلى أنّ النضال السلمي هو الطريقة المثلى لمقاومة الاستعمار البريطاني الجاثم على بلاده منذ منتصف القرن الثامن عشر.
كتب تولستوي يقول ذات مرة: “إن المجموعة الصغيرة من الناس التي تهيمن على الجماهير الغفيرة للعمّال، والتي تتمتّع بكلّ ما تنتجه هذه الجماهير، تعيش البطالة، وفي ترف غير معقول، وتنفق بلا حساب وبطريقة بشعة، غير أخلاقيّة من أجل إسعاد نفسها”.
ولكي يقرن القول بالفعل تخلّى تولستوي عن أراضيه لصغار الفلاحين (الموجيك)، ومثلهم أخذ يرتدي ثيابا بسيطة ويصنع أحذيته بنفسه. وثمّة مفكّرون وفلاسفة أناروا السبيل أمام غاندي، فإلى جانب تولستوي، تأثر غاندي كثيرا بأفكار الأميركي دافيد تورو صاحب فكرة “العصيان المدني”. ومثله أصبح يعتقد أن المواطنين لهم الحقّ والواجب في عصيان القوانين اللاّأخلاقيّة. بالإضافة إلى ذلك كان تورو يعتقد أن ما يكتسب بالقوّة لا يمكن المحافظة عليه إلاّ بالقوّة.
وعند عودته إلى الهند دعا غاندي شعبه إلى النّضال ضدّ الاستعمار البريطاني بالطرق السّلميّة، وبواسطة ما سمّاه بـ”العصيان المدني”، حاثّا شعبه على العمل من أجل التخلص من كلّ تبعيّة للاستعمار وذلك من خلال رفض كلّ منتوجاته، وعدم تقليده في طرقه الحياتية والفكرية. كما طالبه بالتعلق بثقافته الأصلية وباللغات المنتشرة في الهند، والتي كان الاستعمار يعمل على تدميرها لتسهيل سيطرة لغته على جميع الفئات.
وقد كتب غاندي يقول: “إنّ الحضارة الحقيقية لا تقتضي منّا الإكثار من الرغبات والضروريّات، وإنما الحدّ منها إراديا. تلك هي الطريقة الوحيدة لكي ننعم بالسعادة الحقيقيّة، ونصبح قادرين على الاهتمام بالآخرين ومساعدتهم”. ومتوجها بنصائحه إلى الهنود، كتب غاندي يقول: “علينا ألاّ نحتفظ إلاّ بتلك الأشياء التي لا يملكها الآخرون”.
كتب غاندي يقول: “إنّ الحضارة الحقيقية لا تقتضي منّا الإكثار من الرغبات والضروريّات، وإنما الحدّ منها إراديا. تلك هي الطريقة الوحيدة لكي ننعم بالسعادة الحقيقيّة، ونصبح قادرين على الاهتمام بالآخرين ومساعدتهم
وبسبب مواقفه، سجن غاندي العديد من المرّات، ولجأ إلى الإضراب عن الطّعام للتّعبير عن رفضه للأساليب الاستعماريّة، وبعد حصول الهند على استقلالها، وذلك عام 1947، حاول التّوفيق بين المسلمين والهندوس، معارضا انفصال باكستان عن الهند.
غير أنه لم يفلح في ذلك. وفي 30 يناير 1948 اغتاله أحد المتطرّفين الهندوس، وقد علّق العالم الشّهير أينشتاين على ذلك الحدث الفاجع قائلا: “سيكون من الصّعب على الأجيال القادمة أن تدرك أن هذا الرّجل، (يعني غاندي) الذي من لحم ودم، عاش فعلا بين الناس″، وكان غاندي يصلّي باسم الهندوس وباسم المسلمين وباسم المسيحييّن، وكان يخيف الأعداء ويحترم الضّعفاء، وحتى النهاية، جعل من رفض العنف فلسفته في الحياة وفي السياسة، وكان أنصاره يسمّونه “بابو” أي “الأب” باللغة الهنديّة، وحتى هذه السّاعة لا يزال غاندي حاضرا في قلوب أبناء شعبه، كما في قلوب المناهضين للقوّة والعنف في جميع أنحاء المعمورة.
ولا تزال صوره بزيّ زاهد متقشّف تزيّن الأوراق النقديّة وطوابع البريد وجدران المدارس والجامعات الهنديّة. وهناك زعماء كثيرون تأثّروا بغاندي وبأفكاره مثل المناضل الزّنجي الأميركي مارتن لوثر كينغ، والزعيم البولوني ليش فاليزا والزعيم الأفريقي نلسون مانديلا.
وفي نهاية حياته، ورغم تنديده بما تعرّض له اليهود خلال الحرب الكونية الثانية، أدان غاندي قيام دولة إسرائيل قائلا: “يرتكب اليهود خطأ فادحا عندما يريدون أن يفرضوا وجودهم في فلسطين بالقوّة، وبمساعدة الولايات المتحدة الأميركية”.
أكّد غاندي أن الدعوة إلى اللاعنف موجودة لدى كلِّ الديانات، "لكني أعتقد باعتزاز أن الهند ربما هي التي، من خلال تجربتها، حوَّلت هذه الدعوة إلى علم. لقد ضحَّى عدد لا يحصى من القديسين بحياتهم في التكفير عن خطاياهم (تاباشرايا بالسنسكريتية) حتى أحسَّ الشعراء أن بوسع جبال الهملايا ببياضها الناصع أن تطهر من خلال تلك التضحيات، لكن كل ممارسة اللاعنف تلك أضحت شبه منسية اليوم، لذا من الضروري إعادة إحياء القانون الأزلي الذي يردُّ على الغضب بالحب، وعلى العنف باللاعنف".
وعن الإسلام قال غاندي: "يقول لي بعض أصدقائي المسلمين إنهم لن يقبلوا البتة المفهوم المطلق للاعنف. فبالنسبة إليهم، على حدِّ زعمهم، للاعنف نفس مشروعية العنف، واستعمال كليهما يخضع للظروف، ما يعني أن كليهما لا يحتاج إلى فتوى لتبرير مشروعيتهما، وأنَّ هذا درب معروف مرت به الإنسانية على مر العصور.
لكني سمعت من العديد من أصدقائي المسلمين أن القرآن يبشر باللاعنف؛ فهو يعتبر الصبر أسمى من الانتقام، وكلمة إسلام بحد ذاتها تعني السلام الذي هو اللاعنف. بادشاه خان، الذي هو مسلم عن قناعة ولم يفرِّط يوماً لا بصلاة ولا بصيام، قَبِل باللاعنف عقيدةً. وليست حجةً أن نقول إن حياته لم تكن على مستوى ما آمن به، حتى وإني، يا لخجلتي، لم أفعل مثله في حياتي. والحجة التي تقول بأنَّ اللاعنف، بالنسبة إلى القرآن، هو قضية تأويل، لستُ في حاجةٍ إليها في دعوتي".
إلى جانب تولستوي، تأثر غاندي كثيرا بأفكار الأميركي دافيد تورو صاحب فكرة "العصيان المدني". ومثله أصبح يعتقد أن المواطنين لهم الحق والواجب في عصيان القوانين اللاأخلاقية، بالإضافة إلى ذلك، كان تورو يعتقد أن ما يكتسب بالقوة لا يمكن المحافظة عليه إلا بالقوة. طبّق غاندي مذهب اللاعنف حتى فقد حياته بسببه، بينما استند شخصياً على تاريخ الفكر الديني الهندي القديم من أجل تطبيق مفاهيم اللاعنف أو المقاومة السلبية (أهيمسا باللغة الهندية). وضّح غاندي هذا في سيرته الذاتية: "عند يأسي، أتذكر أن الحق والحب هما اللذان يربحان دائماً علي مدار التاريخ، كان المغتالون والحكام المستبدون يعتقدون أنهم لا يهزمون ولو حتى في فترة من الفترات، ولكن دائماً في النهاية يخسرون".
قال غاندي: "ماذا سيغير الدمار الجنوني من أجل الموتي، والذين بلا مأوى، واليتامي الذين يعملون تحت اسم الحرية والديمقراطية أو بسبب الشمولية، ورأى أنه ستكون هناك العديد من القضايا "من جراء مجازفتي بحياتي، لكن عندما أُقتل، فلن تكون هناك قضية واحدة".
وصف غاندي مقاومة القوات والحكومات للعنف بالشكل التالي: "الجيش المتصدي للعنف لن يتعامل مثل الأشخاص المسلحين سواء في أوقات الحرب أو في أوقات السلام، وإذا كنت تتعرض لهجوم من خارج المجتمع اللاعنفي، فهناك طريقتان مفتوحتان لمواجهة العنف، عدم التعاون مع المهاجم، وتفضيل الموت بدلاً من الانحناء والخضوع، أما الطريقة الثانية، فهي اللاعنف الذي سيقوم به الأشخاص الذين نشأوا على طريقة نبذ العنف، إن الصورة غير المتوقعة والتي لا نهاية لها التي كوّنها النساء والرجال الذين يفضلون الموت عن الخضوع لرغبة المعتدي، هذه الصورة ستُليّن قلب معتديهم وعساكرهم.
فالأمة أو المجموعة التي اختارت مبدأ اللاعنف كرأي سياسي أساسي لا يمكن إدانتها بالعبودية أو حتى بالقنبلة الذرية، فمستوى اللاعنف اذا جرى تطبيقه في هذه الدولة سيرتفع بشكل طبيعي، وسيُحترم بشكل عالمي".
وقدّم غاندي نصائحه تلك للشعب البريطاني للوقوف في وجه النازية، حين احتلّ هتلر الجزر البريطانية في العام 1940، فقال:"أود ترككم بسبب، سواء أنتم أو أسلحتكم التي تمتلكونها غير كافية لإنقاذ البشرية. أدعوا هير هتلر وسينيور موسوليني، من أجل أخذهم ما يريدون من البلاد التي تعتبرونها وجودكم وكيانكم، لو أراد هؤلاء النبلاء دخول منازلكم ، اتركوا منازلكم".
في لندن حيث درس القانون، أصبح غاندي نباتيّا، كما اكتشف المسيحية، وقرأ الإنجيل بشكل جديد مسْتلهما منه دروسا ومواعظ كثيرة في الأخلاق والسياسة، وفي أفريقيا الجنوبيّة حيث عمل محاميا على مدى عشرين عاما، وجد نفسه مجبرا منذ البداية على مواجهة العنصرية البيضاء
آمن غاندي بأن للبشر شريعتهم العليا، وهي مبدأ اللاعنف، وقال إن "اللاعنف هو شريعة الجنس البشري، وهو أكبر وأسمى بما لا يقاس من شريعة القوة الغاشمة، وفي نهاية المطاف، هو لا يليق بأولئك الذين لا يملكون إيمانًا حيًا بألوهية المحبة، يؤمِّن اللاعنف حماية كاملة لاحترام المرء ذاتَه، ويعطيه شعورًا بالكرامة، وإن ليس دائمًا فيما يتعلق بملكية الأرض أو بالملكية المنقولة، لكن التجربة العملية تقول إنَّ اللاعنف يؤمِّن درعاً أفضل لحمايتها مما يؤمِّنه رجال مسلحون.
اللاعنف هو الطبيعة الفعلية للأشياء، وإن كان لا يفيد في الدفاع عن المكتسبات غير المشروعة، والأفعال غير الأخلاقية. لذا يجب على الأفراد أو الأمم الذين يطبقون اللاعنف أن يكونوا مستعدين للتضحية بكل شيء (حتى آخر رجل بالنسبةى إلى الأمم) ما عدا التضحية بشرفهم".
وفصّل في الدعوة إلى اللاعنف والتبشير به، بوصفه قوة يمكن للضعفاء استخدامها، فكتب أن "اللاعنف قوة يمكن أن يستخدمها الأطفال والشباب والنساء والبالغون، شريطة أن يمتلكوا إيمانًا حيًا بألوهية المحبة، وحبًا متساويًا للجنس البشري. لذلك، عندما نقبل باللاعنف كقانون للحياة فمن الواجب أن يشمل هذا القانون الكائن بكليته، لا أن يكون مجرد أفعال منعزلة. ومن الخطأ الكبير الاعتقاد بأنَّ القانون يصحُّ على الأفراد، ولا يصحُّ على الجنس البشري ككل".
واعتبر أن اللاعنف هو وحده القانوني، فالعنف ليس بوسعه أن يكون قانونيًا، أي بتعبير آخر، ليس بوسع العنف أن يكون قانونيًا وفقًا لقانون وضعه الإنسان بل وفق القانون الذي صنعته الطبيعة للإنسان.
 عن: جريدة العرب اللندنية