في 29 تشرين الثاني  1956..اعتقال الجادرجي ومحاكمته الشهيرة

في 29 تشرين الثاني 1956..اعتقال الجادرجي ومحاكمته الشهيرة

نصير الجادرجي
بعد أيام قلائل من الافراج عني كان العدوان الثلاثي على مصر قد انتهى وتمت تسوية المسألة دولياً، وصل الوالد الى المنزل قادماً من مصر التي شهد أحداثها بالتفصيل لأنه كان في قلب الحدث.
كان قد روى لنا ما جرى من أحداث وتفاصيل لقائه بالقيادة المصرية وعلى رأسها الرئيس (جمال عبد الناصر) وزيارته قبل العدوان بأيام قلائل الى قناة السويس ونقلهم من قبل المصريين الى مقر إقامة آمن، خوفاً على حياتهم من استهداف طائرات الحلف الثلاثي.

بعد يومين من وصوله صدر أمر القاء القبض عليه بتاريخ 29/11/1956، حيث وصلت الى منزلنا بعد منتصف الليل. قوة من الشرطة. قمت بمرافقته وهم يقتادونه، فقاموا بإيداعه في (مركز شرطة جسر الخر) (بالقرب من ساحة النسور حالياً).
في أثناء دخولي الى المركز، طلب مني والدي جلب جهاز (الراديو) له مع بعض الحاجيات، فعدت الى البيت لتلبية طلبه، وبعد ذلك وصل الى المركز السيد (فائق السامرائي) (القيادي في حزب الاستقلال) مقتاداً من الشرطة، فطلب مني أن اجلب له من منزله الواقع في شارع طه، عباءة لتقيه من البرد.
كان الوقت حينها يشير الى الواحدة بعد منتصف الليل، فذهبت بسيارتي الى منزل السامرائي وطلبت من ذويه تزويدي بأغراضه، وبعد ان اعطوني اياها عدت الى المركز وسلمته ماطلب.
وصلت الى المركز مرة أخرى حاملا الأغراض لأصادف مجيء الشرطة مقتادين القيادي في حزب الاستقلال السيد (صديق شنشل) الذي ما أن شاهدني حتى طلب مني الذهاب الى منزلهم بالاعظمية لجلب أغراض له الى المعتقل، فذهبت مرة أخرى على الفور تلبية لطلبه.
ثم عدت الى المركز لتسليم أغراض السيد (صديق شنشل)، فشاهدت رئيس غرفة تجارة بغداد الشخصية المعروفة السيد (جعفر الشبيبي) مقبوضاً عليه بسبب مساهمته بإضراب الأسواق رداً على العدوان الثلاثي على مصر.
وعلى ذلك الحال استمر ذهابي وإيابي من والى مركز الشرطة حتى فجر ذلك اليوم.
كنت من خلال زيارات الأهل والاصدقاء المستمرة لي وانا في معتقل السعدية أتابع أخبار الوالد وظروف اعتقاله، وعلمت بأنه ورفاقه قد تم نقلهم من مركز شرطة الخر، الى مدارس الشرطة في الباب الشرقي (وزارة الصناعة الحالية) تمهيداً لمحاكمتهم. كان قد تسرب الخبر الى الاعلام العربي حينها، وكنَا نستمع من خلال الاذاعات العربية، وبالأخص (صوت العرب)، نداءات تطالب بالأعلان عن اضراب عام، يعم كل الدول العربية احتجاجاً على محاكمة الشخصية الوطنية العراقية (كامل الچادرچي) ورفاقه.بعد أن تمت محاكمتهم من قبل الحاكم العسكري الذي حاكمني نفسه، ليحكم عليه بالحبس لمدة ثلاث سنوات، بتهمة إرساله برقية احتجاجية من مصر يتهم فيها الحكومة العراقية بتصدير النفط الى اسرائيل، وكانت موقعة من كبار الشخصيات الوطنية العربية (أعضاء لجنة الاتصال الشعبي) وهم:
معروف الدواليبي "رئيس وزراء سوريا السابق"، وأكرم الحوراني، وصلاح البيطار، والمحامي الاردني شفيق رشيدات "الأمين العام لاتحاد المحامين العرب"، والسيد محمد فؤاد جلال نائب رئيس المجلس النيابي المصري، والنائب الاردني عبد الله الريماوي "الذي أصبح فيما بعد وزيراً لخارجية بلاده"، والسيد حميد فرنجية "مرشح رئاسة الجمهورية اللبنانية".
من غرفتنا في معتقل السعدية، استمعت مساءً الى قرار الحكم عبر الراديو من خلال اذاعة (صوت العرب) المصرية وصادف ذلك اليوم (19/12/1956)، وأثار استهجاننا جميعا، وقد تابعنا موقف الاعلام العربي عبر الاذاعات العربية التي أبدت استنكارها لهذا الحكم.
تم ايداع والدي في سجن بغداد المركزي في الباب المعظم (سجن الموقف) "وزارة الصحة حالياً"، وكان فيه جناح خاص للمعتقلين الشيوعيين، مع جناح آخر للمتهمين بجنح أخرى، وقد كان مكوناً من ست غرف، أفرغت جميعها ليقيم فيها والدي لوحده (لأجل عزله عن المساجين الاخرين)، ثم تم ترتيبها من قبله مع تخصيص أحد المساجين من قبل مدير السجن لمساعدته.
قضيت حوالي ثلاثة أشهر في معسكر السعدية (المعتقل)، ثم قدمت للمحكمة مرة ثانية مع المحامي عبد الرحمن الصفار والمحامي حكمت القيسي وغيرهما، وصدر قرارها القاضي بتقديمنا بتعهد، وبكفالة شخص ضامن للمحافظة على (الأمن)! لمدة ثلاث سنوات.
كان أول عمل قمت به حال خروجي من المعتقل، هو زيارة والدي في السجن حيث وجدته بمعنويات عالية جداً وغير مبالٍ بما تعرض له. وفي أثناء لقائي به، أخبرته عن رغبتي في اكمال دراستي خارج العراق، وفي مصر تحديداً. فوجىء بهذا القرار ورحب به قائلاً: أخيراً شفيت من مرضك، وكنت واثقاً إنك سوف تعود الى رشدك في يوم من الأيام؟!. قاصداً بذلك (داء التمرد) الذي كنت أعاني منه (حسب تعبيره).ثم طلب مني التريث، لحين تزويده لي برسالتين قد تساعدني في القاهرة، وبعد أن أتم الكتابة سلمني مظروفين معنونين إلى: السيد (خالد محي الدين)* والسيد (محمد فؤاد جلال)**.
كنت عادة استيقظ مبكراً صبيحة كل يوم في سكني بالعوّامة أقوم بوضع مؤشر المذياع على ألاذاعات العربية والاستماع لنشرات أخبارها عبر الراديو الذي اقتنيته من إحدى محلات القاهرة، والذي كان يسحب كل شيء وفقاً لمفهومنا الدارج حينها.. كما كنت أقضي أيامي بحالة انتظار قلق لنتائج امتحانات البكالوريا، والتي منها يتحدد مستقبلي متأملاً أن أجني من نجاحي فيها ثمار رحلتي الى القاهرة وإيفائي بوعدي الذي قطعته لوالدي بالحصول على الشهادة.
في صبيحة يوم الأثنين، الرابع عشر من شهر تموز/يوليو من عام 1958، استيقظت كعادتي قبل الساعة السابعة صباحاً على صوت فيروز التي كانت اذاعة دمشق تُبث أغانيها في هذا الوقت من كل يوم، لكن لم أستمع الى فيروز.. فأنتظرت قليلاً حتى قال المذيع:
أعلن قبل قليل الضباط الأحرار في العراق بأن ثورتهم ثورة شعبية...
انتظرت قليلاً لأتأكد من صحة ماسمعت.. متسائلاً مع نفسي، عن أية ثورة يقصدون ومن هم الضباط.
بعدها قال المذيع:
تم اعلان الثورة في العراق والقضاء على النظام الملكي و....ولم أحتمل ماسمعت حتى أدرت الموجة لاستمع الى اذاعة بغداد، التي من خلالها توصلت الى اليقين عبر سماعي لخطاب السيد (عبد السلام محمد عارف)، يصدح فيها معلناً القضاء على النظام الملكي وإعلان الجمهورية..
في اليوم التالي توجهت الى دائرة البريد واتصلت بالأهل هاتفياً، فاستمعت لصوت والدي الذي كان قد خرج من السجن في الثامن والعشرين من شهر حزيران/يونيو من عام 1958 بإلارادة الملكية المرقمة 334، أي قبل الثورة بستة عشر يوماً.
عن: ( مذكرات نصير الجادرجي .. طفولة متناقضة ، شباب متمرد ، طريق المتاعب ) دار المدى