النزعة الحوارية في رباعية أبو كاطع

النزعة الحوارية في رباعية أبو كاطع

د. شجاع العاني
تدور أحداث رباعية شمران الياسري في منطقة زراعية على نهر دجلة هي “ البترا” وتمتد أحداثها من عام 1923 الى ما بعد ثورة تموز 1958 وتستلهم موضوعها من أهم الأحداث التأريخية التي شهدها العراق، منذ ثورة “ العشرين” بدءاً بنشوء علاقات إنتاجية إقطاعية في الريف،
بتأثير الاحتلال الانكليزي. وحتى بداية تفتت الملكيات الكبيرة للأرض، بعد صدور اول قانون للاصلاح الزراعي برقم 30 لسنة 1958.

وتنتمي الرباعية إلى الرواية متعددة الأصوات، وتروي أحداثها من وجهات نظر متعددة يتم الانتقال في السرد من واحدة إلى أخرى، وثمة وجهات نظر مركزية سائدة في الرواية، ففي الوقت الذي تسود فيه وجهة نظر حسين في الجزء الاول منها أي “ الزناد “ تسود وجهة نظر خلف في الجزء الثاني الموسوم “ بلابوش دنيا “ أما الجزء الثالث الموسوم بـ “ غنم الشيوخ “ فتسود وجهة نظر “ صالح بن حميد أبو البينة “ الذي تسود وجهة نظره الجزء الرابع أيضا والموسوم “فلوس احميد”.
وتروي الرباعية الأحداث التي شهدتها ثلاثة اجيال من ابناء البتراء مبتدئة بالأحداث التي وقعت بعد ثورة العشرين فبظهور النفط في العراق وما رافقه من ظهور لطبقة عمالية وليدة، فظهور بعض الأحزاب السياسية نتيجة لظهور طبقات اجتماعية جديدة، فثورة 1941 القومية، فإضراب عمال “ كاورباغي الشهير “ فقرار تقسيم فلسطين ووثبة كانون عام 1948 وقيام حلف بغداد عام 1955 وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فثورة تموز عام 1958....
ويروي الجزء الأول من الرباعية أحداث استدعاء الحاكم الانكليزي للشيخ سعدون بن مهلهل وتقديم مضخة مائية زراعية هدية له، دفعت الشيخ الى فرض شروط جديدة وقاسية على الفلاحين وانتهت بخداع هؤلاء الفلاحين وتسجيل أراضيهم باسم الشيخ سعدون، لتتم له ملكية جميع الأراضي في منطقة “البترا”.
وفي الوقت الذي يروي الجزءان الثاني والثالث أحداث الصراع بين الفلاحين والشيوخ الذين تحولوا إلى الملكية الإقطاعية بمساعدة الحكم الأجنبي للبلاد، فإن الجزء الرابع الذي تنتهي أحداثه بعد قيام ثورة تموز ببضعة أعوام تختص أحداثه، بتحول العلاقات الإنتاجية الإقطاعية الى علاقات إنتاج شبه رأسمالية. يقول رجل الدين حسن الكربلائي، في رده على صالح ابو البينة حين سأله عن أحوال الشيوخ بـ “ لقد اجتازوا الأيام العصيبة وخرجوا من المحنة سالمين، وان تكون الأراضي حتى الآن بيد الإصلاح الزراعي، ولكن رجوع الشيخ فالح من بيروت ومعاودته الاتصال بالمسؤولين، رفعت عزائم أنصار الشيوخ... وقد توجه ضاري – الله يحفظه- بعد رفع القيود عن أرصدتهم في البنوك الى أعمال التجارة والمقاولات” .
والكاتب ينحاز – وهو يصور الصراع بين الإقطاع والفلاحين – إلى جانب الفلاحين، فكريا وأخلاقيا، ولكنه إذ يقتصر على نشاط فئة سياسية معينة مؤرخا لظهور هذه الفئة واتساع نفوذها بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958. فانحسار هذا النفوذ وعودة الطبقات القديمة إلى ساحة الحياة والصراع على وفق علاقات اقتصادية جديدة نشأت وتعاظمت بفعل الثورة فانه إنما ينحاز عقائديا الى هذه الفئة، وهو ما يؤاخذ عليه الكاتب، لاسيما إذا ما علمنا أن روايته تطمح الى تصوير الوضع الاجتماعي بصورة شاملة من خلال تصويره لسكان منطقة زراعية معينة، هي منطقة “ البترا”.
وقبل أن نشير إلى مدى انحياز الكاتب العقائدي والى الحياد التام الذي يلتزمه – من جهة أخرى – إزاء شخصيات رواياته، علينا أن نشير إلى أن النسق الذي يسلكه بناء المنظور العقائدي في الرواية، هو النسق المعروف في الرواية متعددة الأصوات، فبالرغم من أن المؤلف يقف وراء شخصية معينة هي شخصية “ حسين “ وأولاده وأحفاده من بعده – فإن منظور هذه الشخصية لا يطغى في الرواية إلى الحد الذي يخضع فيه المنظورات الأخرى، ويهيمن عليها بحيث يصبح منظورا حاكما في الرواية، بل على العكس من ذلك، فان القاص يسمح لكل المنظورات الأخرى بالبروز بحيث تتصارع هذه المنظورات وتتفاضل في الرواية بطريقة تجعل القارئ حراً في اختيار المنظور الذي يراه صائبا دون تدخل من المؤلف.
لقد أشار بعض الباحثين إلى الانحياز الأخلاقي للكاتب إلى جانب فئة اجتماعية هي فئة الفلاحين فلقد أشار الباحث “ باقر جواد الزجاجي “ الى تصوير الكاتب لظاهرة الفساد والانحلال في أوساط الإقطاعيين، ورأى أن المؤلف ينتقم من هذه الفئة الاجتماعية متأثراً برواية “ موسم الهجرة إلى الشمال” التي يدفع مؤلفها بطله مصطفى سعيد “ للانتقام من مستغلي شعبه عن طريق التفوق الجنسي غازيا أوروبا بمغامراته العاطفية “ .
والواقع أن ليس “ حسنة” ابنة الشيخ سعدون هي التي تقيم علاقة غير مشروعة مع احد الفلاحين وتنتهي هذه العلاقة بان تمنح جسدها له قبيل زواجها بيوم واحد من ابن الشيخ “ صلال” بل أن فتيات أخريات من بنات الفلاحين يضمن علاقات عاطفية مع أبناء الفلاحين والظاهرة اللافتة للنظر أن بنات الشيوخ يقمن علاقات جسدية لا مشروعة، في حين تقتصر علاقات الفتاتين من أسرة “ حميد أبو البينة” على العلاقات العاطفية من دون التورط في المسائل الجسدية.
والحق أن هذا مظهر من مظاهر انحياز الكاتب الأخلاقي الى الفلاحين كما أسلفنا إلا أننا نرى أن تأثير “ لموسم الهجرة إلى الشمال “ في الكاتب خاصة وان دوافع مصطفى سعيد ليست طبقية، وإنما هي قومية وهي فضلا عن ذلك دوافع تحكمها العقد المرضية والالتواء النفسي الذي يعترف به مصطفى سعيد نفسه، فالأزمة النفسية والروحية التي يعيشها مصطفى سعيد والتي كانت نتاجا لعصره، كما كانت نتاجا لتكوينه النفسي والاجتماعي – هذه الأزمة عبرت عن نفسها عن طريق اللهاث المحموم وراء الجنس. والأمر في رباعية الياسري، على خلاف ذلك تماما.
أما المظهر الثاني، الذي أشار إليه الباحث فهو انحياز الكاتب الفكري ولا سيما في موقفه من العدوان الثلاثي على مصر وهزيمة هذا العدوان، إذ يرى الباحث أن الكاتب في تصويره لهذا الموضوع لم يلتفت إلى دور الشعب العربي في هزيمة العدوان. والواقع أن المؤلف صور انتفاضة الشعب العربي في العراق تأييداً لشقيقه الشعب العربي في مصر، وسجل “يوميات انتفاضة مدينة” الحي الباسلة آنذاك. وبالرغم من انحياز الكاتب الفكري مجمل الصورة وانحيازه أخلاقيا لفئة اجتماعية معينة ضد أخرى، فانه استطاع بالنسبة لأجزاء الصورة أن يحافظ على حياده فكريا وان يبقى بعيداً عن كل شخصياته، تاركا لها حرية الرأي والتعبير، مبرزا المواقف والأفكار المتعارضة لهذه الشخصيات. لقد وقف القاص موقفا محايدا من شخصياته، سامحا لكل وجهات النظر، ولكل الأصوات بالظهور والتعبير عن نفسها. وثمة مواقف كثيرة يتجلى فيها هذا الموقف الذي يبتعد فيه القاص عن شخصياته، ويحافظ على مسافة كبيرة بينه وبينها، وأول هذه المواقف، موقف الفلاح “خلف” من أول قمر صناعي أطلق الى الفضاء عام 1957 م، فخلف الذي يرقد رقدته الأخيرة على فراش المرض، يفرح لهذا الانجاز، لكن (وهو) المحتضر يتساءل عن الفائدة التي يجلبها له هذا الانجاز الذي لا يستطيع دفع الموت – وشيك الوقوع – عنه يقول الراوي: أعاد خلف تساؤله دونما انتظار لإجابة فرحان، هل يفيدني بشيء كأن يعيد إليّ شبابي؟ أو يؤخر موتي؟ هذا ما يثير اهتمامي الآن... لماذا لا توجه هذه الجهود الضخمة التي أوصلوا بها قمرا يدور بجانب القمر الأزلي الذي خلقه الباري عز وجل – لاستكشاف دواء يطيل عمر الإنسان؟ .
ومن هذه المواقف أيضا، أن يتساءل – مالك الأغنام – صالح أبو البينة - حين يحرض الملا نعمة الفلاحين على إقامة الدعوى ضد الشيوخ يتساءل عن الفرق بين محكمة “ الحي “ التي أقامتها سلطات العهد المباد عام 1956 م لمحاكمة العناصر التي قامت بالانتفاضة الشعبية تأييداً لشعب مصر العربية ضد العدوان وبين المحكمة “ العليا الخاصة “ في بغداد وفي ذلك يقول الراوي: لم يتركه الملا ينعم بهدوئه، اخذ ينصح الفلاحين بإقامة الدعاوى ضد الشيوخ في محكمة القضاء أو اللواء... فاستاء صالح وخاطبه في السر: عدت إلى ما كنت عليه. غلبك طبعك الشرير... ما الفرق بين محكمة الحي ومحكمة بغداد؟ كلها محاكم ومشاكل؟ “ .
وعندما يسمع “ صالح “ بان “ الملا نعمة “ قصد المدينة، وهو يحمل طلبا موقعا من الفلاحين، بتأسيس جمعية تعاونية، ظنها صالح نوعا من “ القيادة” يتذكر سؤال الملا في مجلس فاتحة “ خلف “ عمن انتخب منهم عائلة الشيوخ وسلطة آل مهلهل، ويتساءل عن الفرق بين السلطتين، سلطة آل مهلهل، وسلطة الملا الجديدة:” القيادة؟ لقد تذكرت أقوال الملا.. وصدى كلماته لا يزال في أذني يوم “ صوت “ على الفلاحين في مجلس فاتحة “خلف”: من منكم اختار بيت مهلهل ليكونوا شيوخا ويملكون الأراضي؟ وها هو يأخذ بصمات أصابعهم.. مقرين باختياره قائدا “ غياده “ وربما إقرارا بملكيته للأرض، والحكومة شاهد على التواقيع.. إنها عبودية من نوع جديد، بصمتم أصابعكم أيها الغنم ولا تعرفون النتائج؟ مثل الغنم تماما “ .
إن تعدد وجهات النظر في الرواية واحتفاظ المؤلف بمسافة كبيرة بينه وبين شخوصه، وتعبير هذه الشخوص عن أصواتها عن طريق خصائصها اللغوية والأسلوبية في الكلام، كل ذلك في رواية البطل فيها جماعة وليس فردا ليعد بحق تطورا كبيرا على طريق بناء الرواية متعددة الأصوات، وبالرغم من أن السرد يتم بضمير الشخص الثالث فان رؤية السارد لشخصياته من الداخل وهي رؤية مجاورة – فضلا عن الحوار، والحوار الصامت الذي استخدمه الكاتب بصورة واسعة تسهم في كشف الشخصيات وتصويرها من الداخل. أما النسق الذي يجرى عليه السرد بخصوص وجهات النظر، فان سرد الاحداث يتم من خلال وجهات النظر المتعددة في الرواية، لا بان يروى كل فصل او مجموعة من الفصول من خلال وجهة نظر معينة، وبان نرى الأحداث بعيني وإدراك شخصية واحدة ولكن سرد الفصل الواحد يتم بالانتقال من وجهة نظر معينة الى أخرى، وتتميز كل شخصية من الشخصيات بأسلوبها الخاص في الحديث وباستخدامها الخاص لبعض العبارات بصورة دائمية، فـ “ حسين “ المفتون بثورة العشرين وبالشعر الذي قيل فيها، لا يمكن أن يقول كلاما يخلو من الشعر إطلاقا، ومنذ البداية، يمهد الراوي الأذهان لصوت حسين هذا بقوله: “ عرفوه هكذا، يردد المأثور او بيت الشعر في أي وقت شاء، ولا يجيب عن أسئلتهم: لماذا ولمن وكيف ومع ذلك لا يجرؤون حتى على التفكير بأن حسين يلقي الكلام على عواهنه ولطالما أسموه في الحضور والغياب وتبعا للمناسبة “ الداهية.. او الحكيم.. أو الجني “ . والراوي يمهد بهذا لصوته المتميز باستخدام الشعر وبدوره في بناء المنظور العقائدي، بما يمتلكه من سمات فكرية تميزه عن زملائه وتجعله وأسرته وأولاده وأحفاده من بعده، المدافعين المخلصين عن فئتهم الاجتماعية.
وكما تميز حسين في أحاديثه، فقد تميز الفلاح “ خلف “ الذي كان على العكس من “ حسين “ لا يمتلك وعيا ناضجا بحيث استطاع الشيخ أن يرشوه ويسكته عن حقوقه وحقوق الفلاحين، مرتين، وفي كلتا المرتين يهديه الشيخ – زندا – ومن هنا جاءت تسمية الجزء الأول من الرباعية “ الزناد “ ولخلف عبارته الخاصة التي يرددها في نهاية كل كلام يقوله وهي “بلابوش دنيا” وقد جعل المؤلف منها عنوانا للجزء الثاني من الرواية.
وقد تميز “ صالح أبو البينة “ بأسلوبه الخاص الذي تتردد فيه عبارة “ يا صالح يا ابن الغبرا “ وباستخدامه للدعاء في كل أحاديثه.
اما “ فاضل “ فقد امتاز بأسلوبه المرح الساخر وقد أدت هذه السخرية إلى خلق أساليب جديدة في الكلام، تركت أثرها لا على كلام فاضل أو خطابه فحسب بل وعلى التركيبة الأسلوبية للرواية ككل. فقد استخدم فاضل المعلم طريقتين في أحاديثه ورسائله الساخرة، هما التهجين والاسلبة. وقد عرف باختين الطريقة والأسلوب الأول أي التهجين بقوله:” انه مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد وهو أيضا التقاء وعيين لسانين مفصولين بحقبة زمنية أو بفارق اجتماعي او بهما معا، داخل ساحة الملفوظ “ ومثال التهجين ما ورد في رسالة “فاضل” إلى عمه “الملا نعمة” إذ جاء فيها:
“ بسم الله الرحمن الرحيم – من أمير المؤمنين أبو الفضل مسلح الدين الواسطي إلى عامله على ولاية البترا وضيعة العلوة ودسكرة مويلحة وديمة خلف ملا نعمة حسين المنتسب لعشائر السياح.
أما بعد احمد الله على أن ولاني أمرك وأودع الأمين سرك، لقد اجتمع مجلس الشورى المنعقد ليلة أمس برئاستي وعضوية الأخ كامل وأمة الله نعناعة بنت سكر التي هي في الوقت عينه وذاته أمي الحنون.
واستقر الرأي على الآتي: خلاصته يدك في الكتاب ورجلك في الركاب. اما تفاصيله فهي:
“ كلي يرحم اهلك انت كاطع مهر على البترا؟ الا يسعك مكان غيرها؟ “ وفي هذا النص تجتمع لغتان تفصل بينهما حقبة زمنية، اللغة الأولى: هي لغة الدواوين العربية القديمة بخصائصها الأسلوبية الماثلة – في السجع – والاخرى لغة معاصرة هي اللغة المحكية. ومن الجدير بالذكر أن الفروق بين التهجين والاسلبة هي فروق طفيفة، فلو حذفنا الجملة الأخيرة التي كتب الشطر الأول منها بالعامية لحصلنا على “ اسلبة” بدلا من التهجين. إما إذا اجتمعت كلتا الطريقتين، فينتج عنهما عندئذ أسلوب ثالث يطلق عليه باختين مصطلح “ التنويع “ . والحق أن هذا التهجين ينطوي على سخرية عالية من لغة الدواوين القديمة وأساليبها وهو أنموذج لما يدعوه باختين بالكرنفالية.
ومثال” الاسلبة” التي تقوم على تقديم لغة في ضوء لغة أخرى تظل خارج الملفوظ – قول فاضل ساخرا “ الهي وأنت القادر القدير...يا من فضلت الحنطة على الشعير.. لقد بعثت إلي رزقا رائعا شيقا وأنا في أعماق هورة البترا، لأنك تعلم اني حرمت على نفسي الشراب الا في المناسبات “ فاللغة هنا هي اللغة المعاصرة ولكنها قدمت في ثوب من الأسلوب العربي القديم في النثر، والذي يعد السجع ابرز معالمه.
وأسلوب السخرية الذي يستخدمه فاضل يشيع في كل كلامه، ولا يقتصر على شيء دون الآخر، فكل موضوع هو لدى فاضل مناسبة للسخرية، حتى وان اتصل هذا الموضوع ببعض المحرمات أو المسائل ذات الطبيعة القدسية.