من تاريخ الاستقالات في تاريخ العراق الحديث..استقالة وزارة صالح جبر 1948

من تاريخ الاستقالات في تاريخ العراق الحديث..استقالة وزارة صالح جبر 1948

فاطمة صادق السعدي
على الرغم من موقف صالح جبر من الحركة الوطنية واضطهاده الأحزاب السياسية، فضلا عن تردي الأوضاع الاقتصادية وأزمة الخبز والتموين ، والإدارة السيئة ، فأن مبعث رفض المعاهدة ، هو كراهية الشعب العراقي لبريطانيا، وبخاصة بعد صدور قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947 أي قبل توقيع المعاهدة بحوالي ستة أسابيع، ووعي ابناء الشعب وبخاصة الطلبة والشباب ومن يحركهم من الأحزاب السياسية الوطنية والقومية ، التي اندفعت لمواجهة وزارة صالح جبر، التي حملها الجميع مسؤولية توقيع المعاهدة.

ونجد ابلغ وصف تقييمي عن الموضوع الذي نحن بصدد البحث عنه ، ما قاله الدكتور كمال مظهر احمد ، بأن القوى الوطنية ، قد وقفت بصلابة وحددت مطاليبها الرئيسة ، بإلغاء المعاهدة وإسقاط حكومة صالح جبر ، وأجراء انتخابات حرة ، ووضع حد للغلاء الفاحش واطلاق سراح السجناء السياسيين وإشاعة الحريات الدمقراطية ومساندة فلسطين لإنقاذها من الاستعمار والصهيونية . وان ابرز دروس هذه الوثبة التي أطاحت بالمعاهدة ، هو تعبير حي للوحدة الوطنية بأسرها ، يساندها الرأي العام العراقي بعربة وكرده ، بعيدا عن الفورات المذهبية والقومية المصطنعة ، التي رعاها ونماها وقوى جذورها المستعمر والعملاء آنذاك . واثبتت وثبة العراقيين أنها دقت بصلابة اكبر إسفين في نعش السياسة الخارجية البريطانية في المشرق العربي كله ، واسقطت بيد المتعاونين مـع السياسة البريطانية كل المحاولات اليائسة .
يمكن القول أن معاهدة بورتسموث الجائرة ، التي أرادت الإبقاء على تسلط البريطانيين ، قد ولدت ميتة ، وقد كان الشعب عنوان الطليعة واصبحت الشهادة ابرز عنوان معبر عن هذا الإلهام الوطني الكبير. وان اكبر عيب يؤاخذ على صالح جبر، انه كان ينفذ ما يؤمر به دون تريث ، وهذا ما جره الى تلك النتيجة التي لا يحسد عليها، ويبقى صانعو السياسة ومكرها ، المعبر عن المغزى الحقيقي بين أروقة ودهاليز الحكم ، وبأشخاص بعدد أصابع اليد ، ولم يبق من أصدقاء صالح جبر المقربين اليه ، من يزجي له النصيحة ، لعيب فيه أم لقوة يتمناها له .
والوثبة بحد ذاتها أتاحت الفرصة للوصي عبد الإله ، الظهور بمظهر الوطني على مصلحة بلده ، على الرغم من انه يتحمل مسؤولية كبيرة بشأن المعاهدة وظروف عقدها، وكان يؤيد إجراءات صالح جبر التي أدت الى رفضها من قبل الرأي العام العراقي الى سقوط وزارة صالح جبر ولم يعد بعدها رئيسا للوزراء. فهل كان صالح جبر حقا يكيد لخصومه ، وهل عرف بالمكائد والمؤامرات وبقي مخلصا لسيد واحد فقط .وهل كان مملوء بالقسوة والمساوئ حتى رددت الجماهير الغاضبة بحقه الأهازيج الشعبية .مثل :
"الله واكبر يا عـرب
أطفالنــا كتلوهـا
ماصار هذا بكل بلـد
نوري وجبر سووها "
وهل أن أراء العراقيين أجمعت حقا بأن المعاهدة لاتحقق الأماني للبلاد وليست أداة صالحة لتوطيد دعائم الصداقة بين البلدين ، على حـد تعبير بعضهم من أن "لم يجتمع رأي الأمة في يوم من أيام تأريخها الحديث ، كما اجتمع في أيام الوثبة الخالدة.."
مهما يكن من امر فأن المجال يبقى مفتوحا أمام التأريخ لإصدار حكم نهائي، طالما تعددت نيات الساسة واختلفت الآراء بشأنها ، وتبقى تفتقر الى الأدلة الدامغة أمام منطق الأحداث ومسار تطورها.وان الوثبة كانت أروع رد فعل جماهيري مسلح عرفه تأريخ العهد الملكي. فهل كان مقال ( وزارة من وزارات الوضع الشاذ) ، الذي كتبه السياسي العراقي البارز حسين جميل في جريدة صوت الأهالي، لسان حال الحزب الوطني الدمقراطي، قد ألهب حماسة المطلعين على مجريات الأحداث السياسية إبان حكومة صالح جبر، والذي وصف شعور الناس بالمطالبة بحقوقهم، ورفع القيود التي فرضت عليهم، وان "قيام وزارة جديدة تألفت بألامس بنفس الأساليب التي كانت تؤلف بها الوزارات السابقة وفي ظل الوضع الشاذ ، وهي وزارة ضعيفة خالية من كل لون، مفقود فيها التجانس مؤلفة من وزراء استوزروا في مختلف العهود الماضية ، عاجزة عن مجابهة المشاكل التي تواجه العراق ، سواء الداخلية منها والخارجية والعالم اليوم تهزه مصالح الاستعمار …". كما جاء في المقال أيضا أن هذه الوزارة لا تمثل آمال الناس ولا رأيهم فيما يواجههم من مشاكل ، وهي أضعف من أن تحقق للعراق أملا، وإن كان يبدو من رئيسها والكثير من أعضائها أنها ستكون قوية في ناحية واحـدة هي مكافحة الحريات ومقاومة الأحزاب واضطهاد من منتسبيها والعودة بالعراق في ظل الأوضاع الشاذة ، فهو لون من ألوان الضعف مبعثه خشية تمتع الشعب بحقوقه وسيادته..". وجاء مقال عبد الفتاح إبراهيم، "دولاب الوضع الشاذ الذي يأتي بوزارة جديدة " متزامنا مع مقال حسين جميل ، والذي اعتبر وزارة صالح جبر، فصلا من فصول الخطة المدبرة التي ترمي الى تحقيق المشاريع الاستعمارية . فهل كان قد دار هواه عن صالح جبر حقا .
وهكذا أطيح بحكومة صالح جبر وهو يقدم استقالته مكرها وهاربا من مركز الحكم مساء اليوم السابع والعشرين من كانون الثاني1948 . وقد أعقبته وزارة محمد الصدر، التي ضمت العديد من الشخصيات ، التي عارضت صالح جبر ، مثل، جميل المدفعي وحمدي الباجه جي وارشد العمري ومحمود الحبيب الأمير ومحمد رضا الشبيبي وداود الحيدري وجلال بابان ونصرة الفارسي وصادق البصام ومصطفى العمري وعمر نظمي ونجيب الراوي ومحمد مهدي وهي تعد من الوزارات المهمة التي سعت إلـى تهدئـة الحالة الأمنية والسياسية التي تردت بعد وثبة كانون 1948، وقد جاءت مذكرة حزب الأحرار بجملة أمور من بينها، أن الأجدر بالحكومة الحاضرة ، التي جاءت على إثر حوادث كانون الثاني 1948 ، الدامية انتهاج أسلـوب واضح وسياسة لا تتعارض وما تتطلع اليه العراق من حرية في انتخاب ممثليها للمجلس. الذي حلته حكومة الصدر والذي أتى به نوري السعيد ، وايده صالح جبر وحكومته.
عن كتاب: صالح جبر ودوره السياسي في العراق حتى عام 1957