في التجربة السنغافورية.. !

في التجربة السنغافورية.. !

خليل يوسف
جميل أن نتطلع في 2019 بأن تسير بلداننا على خطى ونهج سنغافورة باعتبارها حققت ما يدهش على صعيد النظافة، وما يشبه المعجزة في تغيير سلوك الشعب نحو الأفضل، وانتقلت من الدولة مجهولة المصير الى المدينة «الأكثر عولمة» و«المدينة الأنظف في العالم» و«رابع مركز مالي في العالم» و«المارد الاقتصادي».

تجربة سنغافورة مميزة تستحق التأمل والاقتداء، فهي تجربة تنموية فريدة، بعد أن كانت بلداً مستعمراً قابعاً تحت السيطرة البريطانية، سكانه وهم من كل الأطياف والديانات كانوا يرزحون في فقر مدقع، ومشكلات اجتماعية، مع مستويات عالية من البطالة والفساد، ولكن هذا البلد استطاع أن يسطّر أكبر قصة نجاح اقتصادي وتنموي في العالم، وأصبحت تجربته وصعوده الاقتصادي نموذجاً يحتذى به بحق ويرجع الفضل في ذلك إلى لي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة، ومؤسس الدولة وناقلها من العالم الثالث الى العالم الأول، الرجل أدرك بأن سنغافورة لن تزدهر إلا بتغيير شامل، وفي مقابلة صحفية معه قال «نحن نعلم أننا لو سرنا على نهج الدول المجاورة سنموت، فنحن لا نملك شيئاً بالمقارنة مع ما يمتلكونه من موارد، ولهذا، ركزنا على إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، وهو مستوى التعليم، والقضاء تماماً على الفساد، والتركيز على الكفاءة، واختيار أصحاب المناصب والنفوذ بناءً على الاستحقاق والجدارة، ونجحنا»..
سنغافورة من حيث المساحة تبلغ 719 كيلو مترا مربعا، وهي بذلك أصغر من البحرين، وأنشأت في بدايات تأسيسها مجلساً للتنمية الاقتصادية تولى هندسة جذب الاستثمارات الأجنبية، ووجد كوان يو بأن هذا الهدف لن يتحقق كما يجب دون بيئة آمنة ومنظمة وإجراءات صارمة طبقت على الأرض في إرساء دولة القانون والمؤسسات وليس اقتصاد التعليمات والأوامر الفوقية، دولة تحارب وبصرامة كل أوجه الفساد والإفساد، وتلتزم بالشفافية، ولديها وضوح في الرؤية والهدف وتحقيق الاستقرار، وشكّل مؤسس هذه الدولة حكومة صغيرة وفعاْلة ونزيهة وهي صفات غائبة في معظم الدول المجاورة لسنغافورة، الأمر الذي جعل هذا البلد قادراً وبجدارة من توفير أحسن بيئة تنظيمية ملائمة للأعمال التجارية في العالم ويأتي من بين الاقتصاديات الأكثر تنافسية عالمياً.
سنغافورة استثمرت في مواردها البشرية، وأفسحت كل الفرص للكفاءات الشبابية، اعتبرتهم البوار - الطاقة - التي تفكر وتخطط وتعمل وتنجز وتبتكر وتنهض بالوطن، وركزت على التعليم والتدريب بصورة مبهرة لأنها تؤمن بأنهما مفتاح التقدم والنهوض بالبلد، واعتمدت على الكفاءات والمبدعين، وجعلت فكرة سيادة القانون مزدهرة، ورسخت قيام مجتمع القواعد والمؤسسات، ووضعت فواصل قاطعة بين المصالح الشخصية والمصالح العامة، ولم تحصّن أي مسؤول يخطئ عن أي مساءلة او محاسبة او عقاب، والسنغافوريون يدركون تماماً حضور الدولة ونفوذها ويدها القوية في كل الأوقات، ومتواجدة في كل المجالات، وباستقرار هذه الأدوار على مر السنين تولّد لدى المواطن السنغافوري شعور راسخ وعميق بأن خرق القوانين والقواعد والنظم غير ممكن من قبل الكبير قبل الصغير، وإن حدوث أي خرق من أي نوع وبأي مستوى كان ومن قبل أي كان لا يمكن أن يمر بسلام دون عقاب سريع وفعّال ورادع، وللعلم لم تسجل سنغافورة أي حالة من حالات استغلال المناصب العليا في الحكومة والجهاز الإداري للدولة او تقديم خدمات او تسهيلات استثنائية او مكاسب شخصية لأي مسؤول او لأبنائه او أقاربه، كما لم يسجل في سنغافورة اختلالاً في منظومة العمل؛ لذلك لم يجد أبناء سنغافورة تعيينات من فوق او تجد مسؤولين هبطوا على رؤوسهم من فوق دون سابق معرفة، او تمهيد، او تدرج، وبلا جهد وبلا تعب، وبلا مؤهل، وبلا خبرة، كما لن تجد مؤسسات عامة تحتجز او تقزّم في أنانيات او مصالح البعض، وستجد وبالقانون ضوابط حازمة ضد كل من يحرض على الكراهية او العنصرية او يتورط في لعبة المتاجرة بالدين، او إثارة النعرات الدينية او العرقية او الاستقطابات او الاستمالات، شعارهم هناك «سنغافورة عائلتي»، وهناك من رأى أن الوطن يمكن أن يظهر من يسيء اليه، من يخونه، من يفرط فيه ويبيعه في سوق النخاسة، والشواهد أمامنا كثيرة، ولكن العائلة برأيهم هي الانتماء، هي الكيان الذي لا يمكن التنازل عنه او التنكر له، والخلاصة أن هذا البلد بات اليوم نموذجاً في الترابط العائلي والتعايش الديني والعرقي..!!
فيما يخص الفساد تحديداً كونه مثالاً بارزًا، إن لم يكن الأبرز، يكفي القول إن التجربة السنغافورية في محاربة الفساد وبفضل استراتيجية تبنتها في هذا المجال باتت اليوم من ضمن عشر دول تمثل أهم التجارب المميزة على صعيد محاربة الفساد في العالم، وذلك بحسب مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، ومواجهة سنغافورة للفساد يقوم على أربعة أعمدة رئيسية هي: قوانين فعّالة لمواجهة الفساد، وأجهزة رقابية فعّالة لمكافحة الفساد، وأنظمة تقييم ومتابعة ومراقبة وعقاب قوى ورادع لأي سلوك فاسد، وجهاز إدارة عامة كفء، ونظام ادعاء وقضاء غير مهادن او متسامح مع أي شكل من أشكال وصور الفساد، وأياً يكن المتهم، وأياً يكن نوع الفساد وحجمه ومشتقاته، وهذا يعني أن محاربة الفساد هناك ليس كلاماً، وليست شعارات، بل أفعال، وقانون، وأجهزة يعتد بها تكافح هذا الوباء دون أي خط أحمر، ومجتمع منظم ومنضبط، وملتزم بالقوانين، مجتمع يزدري الفاسدين، يحتقرهم، يحاسبهم، ويودعهم السجون..!
للنائبة المذكورة نقول إنه يمكن قول الكثير فيما يخص التجربة السنغافورية، ونكرر أنها تجربة تستحق التأمل والاستفادة والاقتداء فى كل شأن ومجال، وليس فقط في مجال نظافة الشوارع والإنقاذ البيئي والنظر اليها من زاوية أنها من أكثر بلدان العالم في النظافة، هي تجربة عند المقارنة تثير فينا الأسى والحسرة، فهل يمكن أن نقتدي بهذه التجربة حقاً، وماذا نحتاج لنحسم معركة السير على نهج وخطى سنغافورة وجعل الطريق سالكاً في كل الاتجاهات لبلوغ هذا «الحلم».. هذا هو السؤال..؟!
عن: جريدة الوسط البحرينية