الفن في ساحة الاحتجاج..ثورة الوعي الوطني.. شعلة لمستقبل مختلف

الفن في ساحة الاحتجاج..ثورة الوعي الوطني.. شعلة لمستقبل مختلف

 قحطان الفرج الله
يمتزج النسيج الاجتماعي في عراق ما بعد تشرين، كامتزاج الألوان في اللوحة التشكيلية مبرزا، مفهوم الوحدة الوطنية المتشكلة من علاقات بين المختلفين والمتعارضين. ولكنها مع ذلك تبقي الاسئلة مشتعلة حول دور المثقف والفنان ومهمته في المجتمع والدولة، وكيف يتخلص من تهمة السلبية والنرجسية التي وصف بها على مرّ حقب تاريخية وثورية كثيرة في العراق على الأقل؟ هل سيظل في ساحة نفي السلطة ومعارضتها والتنظير ضدها ليكون عدوها؟ هل سيهادن ويكون بصفها؟

هذا من جانب السلطة... ومن جانب المجتمع هل ستكون النخبوية هي أداته للعزلة؟ هل سيفهم نبض الشارع ويؤمن بأن على الأرض عرب من نوع آخر؟ عرب صغار تعددت جذور ثقافاتهم وانفتحوا على علم جديد... هل سيفقد المثقف فاعليته وخصوصيته إذا كان بصف من لا يعرفهم ولا يعرف حقوقهم؟... واعني بالخصوصية اطلاعه بإنتاج الفكر وصناعة المعرفة... اعتقد أن دور المثقف الحقيقي الان يكمن بخلق واقع فكري جديد، وإنتاج وتنظيم مطالب تؤمن بحركة الزمن وتغيير نماذج التفكير خارج صناديق النرجسية والاحتكار الطبقي.
إن مهمة الفنان اليوم مهمة عويصة وعليه؛ يجب تغيير مساراته كي يخرج من المأزق، فمشكلته الان لم تعد مع السلطة السياسية، أو الدينية فقط، بل اعقد إنها: مع الممانعات من داخل منظومة التفكير نفسها التي لا تزال تجتر التاريخ والتراث وتعيد إنتاجه وتغفل الواقع بكل تعقيداته، مشكلته من نقطة البداية التي يجب أن تكون من الواقع إلى المستقبل لا من الماضي إلى الماضي، ومن هنا أنا اخالف معظم المثقفين الذين يصدمهم الواقع دائما ويسقط ما في أيديهم ولا يستطيعون المواجهة لضعف الأدوات لانهم كمن يواجه الدبابة بالخنجر، فاذا كان الواقع صادمًا دومًا؛ فعلينا أن تكون أدواتنا من الواقع ذاته كي نواجه بجدية، لا أن نستوردها من عالم آخر، دون معرفة استخدامها.
ما يُلاحظ على الحركة التشكيلية التي انبثقت مع احتجاجات تشرين في بغداد نزوعها نحو صناعة المستقبل لا العودة إلى الماضي، فهي في اغلب تجلياتها تميل إلى كسر القيود والاعتماد على استخدام تدرجات الألوان الباردة، معبرة بذلك عن أمل الحياة الذي يمثله شعار (أريد وطن).
تعتمد اغلب اللوحات على عنصر الفاعلية الجمعية، والإثارة المشتركة بين الشخوص والثيمات في اللوحة، وتحويل فكرة الضياع إلى وجود شعبي يبحث عن هدف سامٍ.
كما برزت من حيث الموضوعات الفنية ظاهرة السخرية من أدوات الدولة في قمع الاحتجاجات والتعبير عن تلك الأدوات بأنها أحد أهم مقومات البقاء والمقاومة والصمود، فهي وإن قتلت المواطن فانها تشعل روح الوطن في آخرين كثر.
كما برزت ثيمة المرأة بشكل لافت في بعدها والعنصر الفلسفي المولد لكل حركات الاحتجاج والصمود فهي الوطن. هي المرأة الأرض التي تنبت كل جميل، ولكن ظهورها لم يكن عاديا فصورة المرأة في اللوحة التشرينية تمثل تصورا بصريا وذهنيا يشير إلى كسرٍ للقيود الدينية والاجتماعية والمذهبية، فلم تعد اللوحة تطالب بحرية المرأة، بل المرأة الان هي من تطالب المجتمع والسلطة إلى السير في درب الحرية، وهذا ما يؤيده الزخم اللافت لحضور النساء في ساحات الاحتجاج.
إن اللوحة التشكيلية وفي اغلب عناصرها المشكلة موضوعيا وتقنيا تؤكد هذا التصور، فإن مثل هذه الاعمال لا تكشف عن خصائص ذات قيمة مباشرة يمكن استظهارها في العمل الفني من خلال نظرة سطحية مستعجلة، بل على العكس تدفع المتلقي إلى البحث عن العلاقات الداخلية التي تربط العمل بالمشاهد أو بمحيطه المادي والمعنوي معًا، ويكفي ردا حضاريا أن يكون الرسم أحد أدوات الاحتجاج في عالم يضج بانتشار الجهل والأمية.
إن الرسم يشكل ظاهرة يجب التوقف عندها طويلا في مسيرة الاحتجاجات في العراق فهي ظاهرة وعي تُتحيح لنا التأمل في عبقرية الأدوات المستخدمة للاحتجاج، فعدنا يُعيد الرسم والفن فاعليته بين الناس فهذا يعني أن المجتمع يستعيد فعاليته المجتمعية والإنسانية أيضًا، عبر صياغة المفاهيم والمطالب بصورة حضارية وعليه تكون مساحة العقلانية وتقبل الاخر هي الأقرب من لغة العنف والسلاح، إذا كان الرسم سلاح المقاومة فعراق ما بعد تشرين في مقدمة أمم تنزع رداء الحرب نحو رداء السلام، وأول الغيث رسمٌ ثم ننتصرُ..