البصير الثائر والمعلم والخطيب

البصير الثائر والمعلم والخطيب

توفيق التميمي
ثائر ومعلم صفتان لازمتا حياة العلامة محمد مهدي البصير ،ارتبطت ايام شبابه بالثورة العراقية الكبرى وخطابات النقمة والتحريض على احتلال انكليزي غاشم لبلاده .... برغم فقدانه البصر وهو في السن الخامسة من عمره بمرض الجدري ... فان الله عوضه بقوة البيان وبلاغة التعبير وفصاحة الثورة حتى عدته جماهير العراق الثائرة لسان ثورتها وخطيبها الهادر فاكتسب لقب (ميرابو العراق) عن جدارة واستحقاق ....

لم يقتصر دوره في الثورة ضد الانكليز على الخطب والكلمات ...فترجم فعله السياسي الى واقع عندما كلفته جمعية حرس الاستقلال المناهضة للانكليز ان يكون امينها العام وممثلها في بلدته الام الحلة1919(سيرة البصير ولسانه يشرحان معنى واصرار الانسان على العطاء مهما ضاقت حدود قدرته،فهو انسان لم تسعفه قدراته البدنية ،فعاهة العمى اعاقته ان يكون مقاتلا في ساحة القتال ولكن حيث قصرت يده عن المصال كان له فم الشاعر والخطيب ليصول به على المحتل ..فهو رجل كفيف البصر يتخذ من النضال ضد المحتل سبيلا ،يفضي به الى الحبس اكثر من مرة والى النفي لجزيرة هنجام في الخليج العربي لكنه ظل ثائرا وسياسيا )د عبدالعظيم رهيف السلطاني مقال منشور في جريدة العالم ...هذا هو باختصار العبارة وبلاغة الايجاز سيرة الثائر والمعلم والعلامة د محمد مهدي البصير . حزب حرس الاستقلال
رغم تربيته الدينية المتشددة ورغم اجواء مدينته الحلة المحافظة الا ان تطلعاته الثورية المبكرة واستلهامه لدروس الثورة الحسينية ومبادئها العامة جعلت الشيخ محمد مهدي البصير ان لايكون طائفيا او منغلقا على طائفته او قوميته ، كما هذب الحس الوطني والثوري المبكر لديه هذا الشعور الوطني بالانفتاح على المكونات العراقية وابرز رموزها وشخصياتها ومشاركتهم في احزاب واحدة وسجون واحدة ومعتقلات واحدة حيال عدو اجنبي مشترك .
تحول غضبه واحتجاجه الكلامي المنبري في بغداد الى فعل سياسي واقعي عندما انتمى الى حزب (حرس الاستقلال ) الذي تأسس عام 1919 والذي نما في احضان المدرسة الاهلية وكانت جلساته السرية تعقد فيها ، انتمى الشيخ المعمم للحزب بعد ان كان مقتصرا في قياداته واعضائه على الافندية حصرا .(الملاحظ ان الحزب كان في طور تأسيسه الاول مؤلفا من الافندية وحدهم ،ولكنه عند تاسيسه في المرة الثانية اصبح ذا طابع شعبي حيث فتح بابه على مصراعيها لكل من يريد الدخول فيه من التجار ورجال الدين والكسبة ، وكان من بين الذين انتموا اليه السيد محمد الصدر وهو من ملائية الكاظمية ،والشيخ المعمم محمد باقر الشبيبي من النجف وكان لهذين الرجلين اثرهما في توثيق العلاقة بين الحزب والطائفة الشيعية ،وفي اوائل 1920 عاد جعفر ابو التمن من ايران فانتمى الى حزب حرس الاستقلال وكان انتماؤه ذا اهمية في توثيق علاقة الحزب باسواق بغداد لما له من نفوذ عليها ) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث د علي الوردي ص102 ج5 ق1، ممثل حرس الاستقلال في الحلة رغم فقدانه للبصر فقد اختارت امانة حزب حرس الاستقلال الشيخ محمد مهدي البصير ممثلها في مدينته الحلة وكانت لقيادته من خلال اتصاله بشرائح الشباب الحلي وتاثيرات خطبه النارية وتوظيف مجالس العزاء الحسيني الاثر الكبير في توسيع قاعدة الحزب وزيادة زخم المعارضة للانتداب البريطاني في جميع ارجاء مدينة الحلة.
ولما ضاقت به مدينته ، وشعر بان ثمة دورا خطيرا ينتظره في العاصمة ارتحل الى العاصمة بغداد هناك ليمارس دوره الوطني في الخطابة والكتابة وقيادة المظاهرات ،وفي سياق وعيه الوطني للثورة العراقية يُحسب للبصير ابتكار فكرة (العزاء الشيعي والمولد السني ) التي شهدتها جوامع السنة وحسينية الشيعية ابان مخاضات ثورة العشرين في الايام التي سبقت اندلاع شرارتها الاولى ويرويها البصير كالاتي :(كنت اسكن في الحلة واصبت بمرض من امراض الحساسية استدعى مجيئي الى بغداد بصحبة اخي عبدالحسين ووصلت الكاظمية في مساء 6 ايار 1920ونزلت ضيفا على السيد محمد الصدر الذي تحدثت معه في تلك الليلة عن ضرورة اثارة الوعي الوطني بين الناس عن طريق الحفلات الدينية التي تجمع المواليد السنية والتعزية الشيعية فسألني السيد الصدر من يستطيع القيام بمثل هذه المهمة فاجبته انا من اقوم بذلك ياسيد )من مذكرات البصير المخطوطة.

التآخي بين السنة والشيعة
على ضوء مناقشة السيد محمد الصدر مع الامانة العامة لحزب حرس الاستقلال لفكرة الشيخ محمد مهدي البصير في فكرة العزاء المولد تمت الموافقة عليها واستحسانها والانطلاق بها وسط جو من الاخاء والتقارب بين الطائفتين السنية والشيعية لم تشهده بغداد من قبل ، وعلى ضوء ذلك اصبح الشيخ الخطيب محمد مهدي البصير احد ابرز نجوم هذه المرحلة واكثر عناصر القلق والازعاج للسلطات البريطانية الحاكمة وللحاكم برسي كوكس تحديدا ( اول حفلة من حفلات المولد التعزية اقيمت في يوم الجمعة 14 ايار 1920 في جامع القبلانية في سوق البزازين واجتمع فيها جمهور غفير من السنة والشيعة والقى احد وعاظ السنة خطبة الجمعة ثم اعقبه الشيخ مهدي البصير فتلا المولد النبوي ومقتل الحسين معا )اللمحات ج5 ق1 ص188.
تكاثرت اقامة الحفلات بشكل عجيب وصارت تلك الحفلات تتوالى تارة في جامع السنة واخرى في جامع للشيعة ومن اهم الجوامع التي اقيمت فيها علاوة على جامع الحيدرخانة :جامع الكاظمية والاعظمية والشيخ عبدالقادر والسيد سلطان علي والاحمدي والخلاني .
برز البصير ثائرا وخطيبا خلال هذه الحفلات الوحدوية الاخوية وكان واحدا من خطباء وشعراء اشتهروا في تلك الفترة الى جنب عبدالرزاق الهاشمي وتوفيق المختار والملا عثمان الموصلي وعبدالرحمن البناء ومحمد عبدالحسين .وقد اطلق الجمهور على الشيخ محمد مهدي البصير لقب (ميرابو العراق)لشدة تاثيره على الناس ، (الى وزير المستعمرات) (سري رقم 597 بتاريخ 25آب 1922) ما يلي لمعلوماتكم :
بعد مغادرتي السراي بدقائق تفرق الحشد ،لقد طلبت اعلامي بما كان يجري ،وقد وجدت بان الملك قد استقبل مباشرة قبل استقباله لي الحزب السياسي المتطرف ،وعند انتهاء المقابلة اتجهوا الى الشرفة المطلة على ساحة السراي حيث القى الديماغوجي المهيج للناس السيد مهدي البصير الحلي خطابا في الحشد ضد السياسة البريطانية والاستعمار البريطاني ..اما عن الملاحظات التي سببت تصفيق الحشد عند حضوري فقد كان هتافا يقول (يسقط الانتداب) المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس.

رسالة الشيرازي باعلان الثورة
كانت اخر فعالية خطابية للبصير في مدينته الحلة قبل ايام من اندلاع الشرارات الاولى للثورة في منطقة الرميثة هي اعتلاءه لمنبره في الحلة مدينته في اليوم الثاني من عيد الفطر المبارك الموافق 19 حزيران 1920 في الجامع الكبير بالحلة ملقيا على الجمهور المحتشد وسط باحة المسجد رسالة وردت اليه من الامام الشيرازي ادت الى هياج جماهيري كبير وواسع النطاق انتهى باعتقال البصير. في عام 1922 اسهم في تأسيس الحزب الوطني العراقي الذي تزعمه الراحل جعفر ابو التمن ،و بهزيمة الثورة العراقية وتشكيل حكومة الانتداب لم يلق البصير باسلحته الثورية وظل متشبثا باحلام الاستقلال والسيادة التي رسمتها مبادئ وسياسات حزب ابو التمن الذي انضوى فيه البصير ، وعقب القائه خطبة في مظاهرة احتجاجية سلمية في بغداد في شهر آب 1922 ،امر الحاكم البريطاني (السير برسي كوكس ) بنفي البصير وجماعته الى جزيرة هنجام في الخليج العربي حتى مايس 1924 (ابعاد هؤلاء الاشخاص ادى الى زوال التوتر في منطقة الحلة ،وقد ذهب عمران الحاج سعدون ،وهو اهم رئيس من رؤساء بني حسن الساكنين تلك المنطقة ، الى الحاكم البريطاني وهو يحمل التعهد الذي كان قد وقعه بالاكراه فمزقه امام الحاكم ) (فصول من تاريخ العراق القريب )مس بيل بيروت 1971.

منفي في هنجام
لم يردع البريطانيون و اذنابهم من العملاء عاهة العمى ولا العوق الجسدي من انزال اقصى العقوبات من السجن والنفي بهذا البصير الذي الهم الثوار حماسا وعزيمة ضدهم وخاصة عندما عرف البرسي كوكس الحاكم السياسي البريطاني العام بان كلمات هذا البصير تسري بين جموع الناس كالنار وسط الهشيم في اشعال مواقد الثورة ضدهم ،فادركوا ان هذا الضرير وكلماته وخطبه النارية لهي اشد خطرا واقوى مفعولا من رصاص المعارك ورايات القتال للمحاربين المبصرين ....فدخل السجون وهو يلهج بأناشيد الثورة التي صاغ قلائد اشعارها ،وعندما سيق مخفورا الى جزيرة هنجام مع رفاقه الثوار المنفيين كان البصير يوزع هبات المعنويات الى اخوته المنفيين معه ويشد من ازرهم ويصنع لهم جوا من المرح وسط قساوة الجزيرة النائية ..
لم ترهبه قضبان السجون ولم ترعبه اشباح المشانق ، فظل صوته يهدر وسط جزيرة هنجام الموحشة وداخل الزنازن الضيقة حتى كان آخر من غادرها من المنفيين(زار كوكس المنفيين في هنجام وقد قال له احدهم :يا فخامة المندوب نحن كلنا نتحمل الاذى ولكن هذا الرجل الشيخ مهدي البصير لا يتحمل فنرجو ان تعفو عنه وتعيدوه لاهله ، فاجابه كوكس كلكم تعودون لاهلكم وهو يبقى هنا لأنه هو الذي جاء بكم الى هنا وقال باللهجة المصرية (كله منو )وبالفعل عاد المنفيون الى اهلهم واجبر البصير على الاقامة بالبصرة )من مذكرات شقيق البصير الشيخ عبدالحسين الشهيب المخطوطة.

تاريخ القضية العراقية
في هذه المرحلة اختزن البصير تجربة وحكمة عمر كانتا كافيتين لقراءة تجربة فصول ثورة العشرين بصفته احد ابرز رجالاتها ولسانها المبين وشاعرها الفصيح ،فكانت تلك السنوات فرصة ثمينة في تاليف كتابه المهم عن الثورة ووقائعها (تاريخ القضية العراقية) والذي اعيد طبعه عدة مرات منذ تاليفه للكتاب 1926حتى اصبح احد ابرز الوثائق والمراجع المهمة في تاريخ وتوثيق ثورة العشرين.