سنةٌجديدةٌتقارِبُ على الانتهاءِوالمدى ثابتةٌوضاربةٌفي الأرضِ مثلَ نهرٍمِنَ الإبداعِ لايَعْرِفُ التعب

سنةٌجديدةٌتقارِبُ على الانتهاءِوالمدى ثابتةٌوضاربةٌفي الأرضِ مثلَ نهرٍمِنَ الإبداعِ لايَعْرِفُ التعب

 ايهاب القيسي
إنَّه هنا، هذا العملُ الجديدُ مِنْ أعمالِ المدى، ينبعُ في ساحةِ التحريرِ، شجرةُ احتجاجٍ لعيدِ الميلادِ طولُها ١٥ متراً، وقُطْرُها ٧ أمتارٍ، أغصانُها سوارٍ تَرْفَعُ أكثرَ من ١٥٠ علماً عراقيّاً بأحجامٍ وقياساتٍ مختلفةٍ، وُضِعَتْ تحتَها صناديقُ مصنوعةٌ مِنْ أمنياتِ العراقيينَ بلا استثناءٍ، تَضُمُّ كُلَّ مطالبِهِم ورغباتِهِم، معنونةٌ بجملةِ: "نريدُ وطناً".

لَمْ أَكْتُبْ ما كتبْتُ مِنْ أجلِ استعراضِ حجمِ العملِ، فقد قرَّرْتُ في هذا اليومِ أنْ أكتُبَ لكم كلَّ شيءٍ فكَّرْتُ فيه بلا مونتاج أثناءَ محاولاتي في مشاركةِ اللَّمَساتِ الأخيرةِ لهذا المجسَّمِ العملاقِ.
تَفَرَّسْتُ في الشجرةِ ، بدايةً مِنَ القاعدةِ حتَّى القِمّةِ، ثُمَّ جِلْتُ بنظري نحوَ شبابِ المدى، كانوا يُشَكِّلونَ لوحةً تجريديّةً مدهشةً مَعَ أبطالِ التحريرِ، مِثْلَ طيورٍ تشتهي الفرحَ تناثروا حولَ أغصانِها لإتمامِ المُهِمّةِ، برقَ أمامي مثلَ مُذَنَّبٍ نجميٍّ هذا العملُ بِخُطواتِهِ النافذةِ. مثلَ كلِّ مرةٍ ، وكما كانَتْ هذه المؤسّسةُ تُمَثِّلُ المدى الحقيقيَّ لِمَنْ يُبْصِرُ المستقبلَ، قَدَحَتْ شرارةُ الفكرةِ الأوليّةِ مِنْ رأسِ العرّابِ، وكعادتِهِ بدأَ بتشكيلِ الأشياءِ مِنْ حَوْلِهِ، مثلما شَكَّلَ بفرداته المدى، أطلقَ كلمةَ الاحتجاجِ وبلا هَوادةٍ بدأَتِ الكلمةُ تُومِضُ مثلَ ألعابٍ ناريةٍ في خيالاتِنا.
كيف انبثقَتْ فكرة الشجرة في لحظةٍ جنونيةٍ، وكانَتْ مُجَرَّدَ حُلُمٍ في رأسٍ غادة الَّتِي تعرفُ جيّداً كيف تَحْلُمُ وهي يَقِظَةٌ، بلا تردّدٍ أو سَرَحانٍ، بدأتْ هذه المبتكِرةُ العنيدةُ في بَثِّ الإيعازاتِ الخاطفةِ، فَوَزَّعَتِ المهامَ على العاملينَ كلٌّ حَسَبَ خِبْرَتِهِ، ثم بدأتْ رحلةُ خليّةِ النحلِ مَعَ العملِ .
بعدَ انتهاءِ العملِ أنظرُ إلى كلِّ تفصيلةٍ مِنْ تفاصيلِ هذه الشجرةِ مِنْ أصغرِ سلكٍ فيها إلى هَيْكَلِها الذي يَزِنُ عَشَرةَ أطنانٍ مِنَ الحديدِ، وفي عروقي تَسْري دماءُ المنتشي بنصرِهِ كما هو الحال مع كلِّ إنجازٍ لنا في المدى، أتذكر كلَّ فردٍ مِنْ أفرادِ هذه الخليّةِ .
أوهين ومجيب البنغلاديشيان الودودانِ وهما يعملانِ على مسحِ الحديدِ وتنظيفِهِ وعيونُهُما تبتسمُ وتتحدَّى الغُربةَ المريرةَ، وعلاء وعامر موظّفا الاستعلاماتِ يعلّقانِ الأعلامَ على السواري ويودّعانِها كما يودّعانِنا بطيبتِهِما البغداديةِ كلَّ يومٍ: "الله وياك". حسن وزيد يشتريانِ "بلا وجع قلب". وبعكسِهِما مهند وجعفر يعملانِ على الميزانيةِ ويقتصدانِ علينا بالأموالِ كعادتِهِما. عصام حملَ أسلاكَهُ الكهربائيةَ وانطلقَ كالسّهمِ. خالد وعلي وطارق وفيروز غارقونَ في زحامِ بغدادَ خلفَ المقاودِ لتلبيةِ الطلباتِ التي لا تنتهي. حسن يوسف يوزِّعُ كلَّ شيءٍ بِكَرَمٍ كما يوزِّعُ حُبَّهُ على الجميعِ، سامر وأوس وكادرِهُما المجدّ (سلام،حسين ،مهند) وحدّادُهُم يتقافزونَ على الرافعاتِ معلَّقِينَ بين السماءِ والأرضِ ونظراتُ الفرحِ تصدحُ مِنْ عيونِهِم. خالد وحارث يقاومانِ النومَ أمامَ المطبعةِ بحركتِها المُمِلّةِ. وحيدر يطلي بألوانِهِ لكي يُلَوِّنَ الحياةَ.
أركان يُخطِّطُ، ماجد يُصَمِّمُ، وحيدر يختارُ الخطوطَ، كومبيوتراتهم تتعبُ وهم لا يتعبونَ، يراقبُهُم قصي بكامراتِهِ التي صارَتْ كالإلَهِ. طارق يُنَضِّدُ الحروفَ بسرعةِ نقّارِ الخشبِ، يُصحِّحُها عباس ببطءِ سلحفاة لطيفة ليضمنَ سلامتَها. محمود وعلي يتسابقانِ لسرقةِ اللَّقطةِ الأجملِ لينقُلَها محمد وعلي وأحمد للسوشال ميديا باحترافٍ. محمد عباس كعادتِهِ يأكلُ ويعملُ بذكاءٍ. فاطمة وعمار كالجنديِّ المجهولِ دائماً يتناوبانِ لتوفيرِ كلِّ شيءٍ وبدقةٍ عاليةٍ ومحبةٍ. والمفرجي علاء ورفعت سِباقُ الحداثةِ والتاريخِ. وكعادتِهِ الخالُ علي حسين بكلماتِهِ الخلّابةِ يُطرِّزُ العملَ. ربَما نسيتُ بعضَهُم، ولكنَّ الجميعَ وضَعَ لمساتِهِ، وكلُّ لمسةٍ لا تَقِلُّ أهميةً عن الأخرى، ففي هذا الصرحِ الكلُّ متساوٍ .
هذه هي المدى الثائرةُ التي لا يُشْبِهُها شيءٌ في هذا البلدِ الجريحِ تخرجُ دائماً من بين الرمادِ لتنشرَ الجمالَ والفرحَ في أرجاءِ وطنِنا الحزينِ.
لطالما حَلُمْتُ أن يكونَ كلُّ شيءٍ في العراقِ مِثْلَها "المدى"، وهذا مطلبي وأمنيتي وَضَعْتُهُما تحتَ الشجرة.