أقنعة محمد خضير

أقنعة محمد خضير

عوّاد ناصر
يكتب هذا الرجل المدعو محمد خضير بقلب مخطوف، وإذ أقول الرجل لكي لا أختصره إلي كاتب، حسب، أما انخطافه، أو اختطافه، فيرجع إلي تلك الحال التي "يمرق" فيها وعبرها ومنها وإليها إلي مخلوقاته البعيدة، الموغلة في البعد، حتي كأن (الرجل) يلتقط صوراً بمهارة حوذي بصراوي يركض خلف عربته بخفة حصان شبع وفتي لكن حزين مثل حصان تشيخوف.

يلتقط محمد خضير صور الوجوه في حدائقها/ الحدائق ليحيلها إلي حدائقها/ الحقائق.. علي أن حقائق الكاتب الماهر هي في جملة مخترعاته الشخصية التي يخترعها من عدم فلا شكل لها أو حيثيات غير ما يؤسسه هو من أوهام حقيقية.. وذلكم هو الإبداع = الاختراع.
الشخوص والشخصيات (التمييز بينها يتعلق بطبيعة الخيال وعلاقته بالواقع) "تمرق" هي الأخري في مضمار الكتابة وقد وضعت إلي جوار بعضها بعضاً في نسيج اللعب واللعب المقابل، فلا تكاد شخصية تظهر (أو تمرق) حتي يدحوها شخص ويدعوها إلي حوار أو رقيم أو تنور، فثمة الخبازة "علي طريقه الترابي، إلي المدرسة الابتدائية" إلي جانب ستيفان زفايج، بل يحضر زفايج لماماً ويبقي التنور.. تنور الخبازة متوهجاً بنار أزلية جعلت الرجل/ الكاتب/ محمد خضير لا يبارح التنور علي عجل بل هو يري إليه حديقة من حدائق وجوهه العديدة عبر تاريخ الوجود القلق.
محمد خضير في كتابه هذا ليس مقالياً ولا قاصاً، بل ثمرة الإثنين، إنما تطل القصة القصيرة، لغة وبنية، بين السطور، عرقاً دساساً، لا يبارح حامله، إذ أن تلك الرائحة التي شممناها، في قصص محمد، منذ المملكة السوداء، تظاهرته الإبداعية، لم تزل تعبق في المكان: مكان النص، ووجهاً من وجوه حدائقه، تشيع تلك الأسئلة المتعلقة باختبار الذاكرة الحية للموجودات وأساليب اشتغالها عناصر أساسية في الكتابة.
الموت؟
الموت، هنا، فكرة فلسفية شخصية تتلخص بإعارة واستعارة الأقنعة الجميلة، فكل راحل يسلم قناعه لراحل محتمل، علي أن الأقنعة المستعارة والمعارة هي بمثابة رايات رفعها، ويرفعها، أولئك الناس الذين يتميزون بوجهة نظر جديرة بتأمل "حديقة العالم".
"... فما أكثر البستانيين الذين سبقوني إلي حديقة الوجوه، وما أكثر اللأقنعة الجميلة التي بعثرتها رياح الحديقة وزوابعها، ودفنتها بأوراق أشجارها، قبل أن تتمكن الوجوه من تذكر ماضيها. لكن الأقنعة الناجية من التفسخ، هي التي ستروي حكايات الوجوه التي افتدت أعمارها بعصارة أجسادها العائدة إلي تربة الفساد والموت. إن جمالها وهي تتفسخ يفوق جمالها وهي تحيا".
تحولات الوجوه هي التي أفضت إلي تغيرات الأقنعة التي يرصدها محمد ليرسم ذاكرة متغيرة، بدورها، تليق بأكبر التحولات وأصغرها، فلا يقيم الراوي في قناع ما طويلاً، ينتقل إلي حديقة "الأعمار المتسارعة".
بستانيو محمد خضير هم أولئك البناة المهرة الذين وضعوا لبنة أو في سياج أو خشبة في قنطرة أو نافذة في زقورة أو شمعة خضراء في أفئدة العشاق أو طرحوا سؤالاً لم يجب عليه حتي اليوم، ومن جري في مضمارهم أو عُدّ منهم: فريد الدين العطار والمعري وجبران خليل جبران وغابريل غارسيا ماركيز وبائعة الخبز ومعلم القرية وحارس الحديقة وبورخيس وطاغور وذلك الجندي الذي قتل في الدقيقة الأخيرة من الحرب قبل أن تتوقف. أي أن لائحة البستانيين لا تخص اؤلئك الذين عرفتهم البشرية كنجوم في سماء حديقة الوجوه، حسب، بل أولئك المجهولين والمنسيين من الناس الذين لم يقيموا في "حديقة العالم" بلا مبالاة، بل هم المعنيون بتأملها واستيضاح آلامها العلنية والخفية.
لا أدري لماذا أحسست بمحمد حزيناً، خلاق الحزن، في كتابه هذا، وما طرحه في صحائفه مراثي عدة لحدائق وبستانيين شكلت البنية التحتية لأحزان كاتب معني بتأمل "خان العالم".