محمد خضير، ذلك البستاني المجهول

محمد خضير، ذلك البستاني المجهول

سعد هادي
خلال 50 عاماً من احترافه الكتابة، لم يصدر الكاتب العراقي محمد خضير سوى بضعة كتب، بدأت بـ«المملكة السوداء» (1969) وانتهت ومرورا بـ«حدائق الوجوه» (دار المدى ــــ 2008). لكنّ أعماله كانت دوماً تثير ردود أفعال تفتح المجال لنقاشات واسعة، مثلما كانت تؤكد حضوره الاستثنائي في المشهد الثقافي عراقياً وعربياً.

كتابه حد=ائق الوجوه الذي يبدأ بمقطع من قصيدة للسياب: «تائهون نحن، نهيم في حدائق الوجوه»، يبدو مختلفاً عن مؤلفاته السابقة. ما أراده في هذا العمل ــــ على حدّّ تعبيره ــــ هو صناعة كتابٍ سرديّ لا يكتفي بتجميع النصوص القصصية، بل يبتكر لها نظاماً يبرمج موضوعاتها ويربط حزمة دلالاتها. «اخترتُ نظام الحدائق لبساطة برهانه وتناسق مكوناته وجمال فضائه. إنه تنويع جديد على موضوع قديم، واشتغال عربي وشرقي أزحتُ عنه أدغال النسيان، واستعرتُ أقنعة البستانيّين العظام للاستدلال على بواطنه وأسراره». إضافة الى استمتاعه بكتابة «حدائق الوجوه» كما لم يستمتع بكتابة مصنَّف سرديّ سابق، يؤكد صاحب «في درجة 45 مئوي» أنّ هذا الكتاب هو خلاصة نزهات في حدائق السرد. خصائصه ككتاب نثري تكمن في إزالة الحاجز الوهمي بين كتابة السرد وكتابة السيرة الذاتية واستبدال الوجوه المقنّعة بالوجه الشخصي السافر لكاتب السيرة. يقول: «كيف لي أن أرى في وجوه الحياة اليومية التي أجالسها كل يوم «جلجامش» آخر و«كافكا» عراقياً؟ حكيتُ وراء قناع بورخيس عن رؤياه في قصّة «مجلس العالم» الذي يوجد في كل مكان. وقد تخيّلتُ أن إحدى جلساته عُقدت على ضفاف شطّ العرب. أما ماركيز، فاستعرت منه قناع الرؤيا المنذرة بالدمار النووي الذي يحيط بمنطقتنا وحضارتنا. إنّه كتاب يتّسع لوجوه لا تُحصى، حيث يحكي كل داخل إلى «خان العالم» حكاية وجوده القصير على الأرض».
لكنّه ليس كتاباً في السيرة الذاتية كما هو مألوف. فكتابتها كما يرى فخّ رهيب يقع في هاويته المظلمة أغلب الكتّاب: «اعتقدَ نيرودا وماركيز وروب غريّيه وسواهم أنّ خير ما يتوّجون به أعمالهم كتابٌ يروي الأوهام والأخيلة كأنها حقائق شخصية، حتى لتختلط وجوه آبائهم وأمهاتهم وأصدقائهم بشخصياتهم الروائية ومناقبهم الأيديولوجية. إن الالتفاف الطويل حول فخّ السيرة المظلم، قادني إلى حدائق الوجوه الذاوية التي نبذها الأوّلون في زوايا مُدغِلة لا تلحظها العين. وحين جئتُ لأبحث عن ملامح وجهي بينها، لم أجد غير الأقنعة أخفي وراءها سرّ صناعتي. نعم، إنّه كتاب سيرة، لكنني التففتُ حول أقاصي الخلود الوهمية لألتقي بأقنعة المعري وجبران وجيد وطاغور الذين أرشدوني إلى سبل المرور بين «رسالة الغفران» و«حديقة النبي» وثيسيوس وجيتنجالي، فأنقذتُ نفسي من السقوط في فخ العالم الأسفل للسيرة الذاتية الذي ابتلع عشتار ودموزي عاشقي الخلود الأول».
أكثر من ذلك، يعترف صاحب «الحكاية الجديدة»: «لن أدّعي شيئاً لنفسي، سوى ما يحكيه بستاني متأخّر عن بستاني متقدّم في حدائق الحب والصمت والغفران. ولست إلا منشداً في كورال الأغنية الأخيرة للإنسان في حديقة القرن. ولم أجهد إلا في اختلاس الحياة من وجوهي السابقة في حديقة الأعمار المتسارعة. أشعر بتزاحم الوجوه على أبواب مشغلي كل يوم، ويدعوني انطفاء وجه في حديقة التأليف العالمية إلى الاعتراف بطريقته في اكتشاف حقائق الواقع اليومية، وآخر هذه الوجوه الأميركي نورمان ميلر. لطالما انشغل قصّاصونا بطرق وهمية وخيالية ألهمتها الروايات الروسية والأوروبية والأميركية اللاتينية. وقلما التفتوا إلى غنى السرد الأميركي الشمالي، إلى المزج بين الخيالي والحقيقي، والملامح البارزة لوجوه القرن العشرين، وجوه الثقافة الشعبية، أبطال الحياة الهامشية، وسحرة الواقع وراء الكواليس... أين شخصيات القرن في نصوصنا المتخمة بنرجسية الخلود الشخصي؟». ولكن أين مفاتن السرد في كل هذا، هل يكتفي الكاتب أن يكون وسيطاً؟ يرد خضير: «إنّها البساطة التي تشبه الغموض. والغموض الذي يولّد التنوع، والتنوع الذي يوحّد النصوص في حزمة من الروابط والاستدلالات. فتنة السرد تتعلق بالبحث بين الروابط السردية عن بنية افتراضية قابلة للنقض وإعادة البناء. إن روح كتاب قد تنبعث من رميم الكتب المتفسخة، وطريقة تأليفه قد تُستوحى من طرائق مندثرة. كما أنّ جمال كائنٍ حيّ مرتبطٌ بقابليته على الذبول والانحلال. والحديقة مثال أمثل على وجود الحقيقة المتناسقة بين أدغال العالم وفوضاه وخرابه. هذه الافتراضات تخص كتاب الحدائق وحده. ولا تسري على كتاب غيره. وربما هي دليل عام على صعوبة تأليف الكتب في عالم يُنذر بنبوءات انتهاء عصر الكتاب النباتي وتقليص عدد المؤلفين إلى مؤلف واحد يرتدي أقنعة مؤلفي الماضي لتأليف كتاب الحاضر والمستقبل». يضيف أيضاً: «الشيء الوحيد الذي أدّعي نسبته إلى «حدائق الوجوه» هو وصوله إلى البنية القصوى في ضمّ نصوص بعضها إلى الآخر، دونما تفريط في وحدتها الموضوعية والشكلية». ما عاد يستهويه جمع نصوص متفرقة في مجموعة قصصية، أو كتابة فصول رواية خطية، كي تستجيب إلى نظام أو بنية قصوى لإنتاج «وحدة الأثر»: «كان هذا قانون إدغار ألن بو لكتابة قصّة قصيرة واحدة، بينما تنتهج مفاهيم السرد الحديثة نظام جمع الأثر المتفرق في وحدة كتاب جامع لأجزاء متفرقة. وبعد خطوة رولان بارت في الانتقال من العمل إلى النصّ، يتطلب أن تنعكس الخطوة من النصّ إلى الكتاب».
لكن كيف يوازن الكاتب بين رؤاه وخيالاته، وواقع مضطرب يزداد سوداوية والتباساً في كل لحظة؟ ما الذي يحاول الوصول إليه من خلال الكتابة؟ يرى خضير أنّ كتابه يعود إلى منطقته الأصلية... إلى حدائقه البابلية، متأخراً عن أجله الموعود وهدفه المرصود. يخرج الكتاب على راهن عراقي مضطرب، يعاني الكسل والفتور والانطواء على شدته وعسره وصعوبة الاتصال بين مؤلفيه وقرائهم. ولا يطمح الكتاب إلى إرسال بعيد لمنظومته السردية. ولعله يصل إلى بؤرة الحاضر القريب بانطلاقه من حدود الماضي البعيد، منبهاً على كنوز المتعة العقلية وجاهداً شق طريقه الصعب بين الآمال والشكوك. ما أصعب العمل، وأمتع المحاولة! ما يبقى من ربيع هذا الكتاب شعور بـ«لذة المطبوع» يعتري المؤلف المنتظر صدور أثره بفارغ الصبر. يعترف أخيراً: «عانيتُ طويلاً وتهتُ كثيراً حتى صدر الكتاب. فصرتُ على يقين من أجلي الذي ينتظرني عند «خان العالم». تلك هي الغاية، الوصول إلى هناك. والالتحاق ببستانيّي العالم المجهولين».