في ذكرى رحيله في 24 كانون الاول 1997..الحسني يتحدث عن نفسه.. بين الصحافة والوظيفة والبحث

في ذكرى رحيله في 24 كانون الاول 1997..الحسني يتحدث عن نفسه.. بين الصحافة والوظيفة والبحث

اعداد: رفعة عبد الرزاق محمد
لا يختلف اثنان على ان لاستاذنا الكبير الراحل عبد الرزاق الحسني فضلا كبيرا على الدراسات التي تناولت تاريخنا الحديث ، فهو بحق شيخ المؤرخين العراقيين . ولا غرابة ان يعد مرجعا رئيسا لكل باحث في تاريخ العراق في العهد الملكي ، وان تصبح مؤلفاته الوثائقية من نوادر الكتب، على الرغم من الطبعات العديدة لها .

ومهما قيل عن طريقة الحسني في كتابة التاريخ واعتباره وثائقيا وليس مؤرخا ، فان ما كتبه سيبقى مصدرا كبيرا ، وذلك لان كتبه قد عرضت على اللذين كانوا في مركز الاحداث فاضافوا اليها فوائد كبيرة ، وحسبه انه كان ملاذ طلبة الدراسات العليا الذين حصلوا على ارفع الدرجات العلمية في التاريخ الحديث ، بعد ان استعانوا بما لديه من وثائق كثيرة ورسائل هائلة ، فضلا عما يتذكره من لقاءاته بالذين صنعوا تلك الاحداث في العهد الملكي وعرفوا اسرارها..

من المزايا الحميدة التي تحلى بها المؤرخ العراقي الكبير عبد الرزاق الحسني في مؤلفاته الكثيرة عن تاريخ العراق الحديث وبلدانياته وملله ،فكانت علامة بارزة في تلك المؤلفات اضافت الى صدقها ورصانتها التوثيقية الشيء الكثير .. اعني هنا الرسائل التي تبادلها الحسني مع اعلام عصره من عراقيين وغيرهم وتقدم بتوجيه ائلة مختلفة عن الموضوعات التي نهد الى الكتابة عنها واستجلاء اسرارها والخوض في مجاهلها .
ولم يفت الحسني وهو يلاقي كبار الشخصيات السياسية والاجتماعية والعلمية من اثارة القضايا التاريخية موضع اختلاف الرأي والرواية امامهم ثم استكتابهم في اسئلة محددة اضافت فوائد جليلة ومعلومات زاخرة جديرة بالتحقيق والتدبر . ومن الجميل ان ينشر الحسني تلك الرسائل والاجابات ويلحقها بكتبه خدمة للباحثين من بعده .
يذكر الحسني عن ذكرياته في العمل الصحفي والوظيفي والتاريخي :
يشاء الطالع أن ينتقل الوالد إلى الرفيق الأعلى وان استعين بما تركه لي من مال فابتاع مطبعة خاصة وانتقل إلى مدينة الحلة لأصدر جريدة علمية أدبية تاريخية باسم (الفيحاء) وقد صدر عددها الأول في 27 كانون الثاني (يناير) عام 1927 وأن العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة نشر تراجم علماء الحلة وفقهائها في القرن السادس للهجرة في جريدتي (الفيحاء) تباعا وقد فسرت بعض الجهات المتعصبة هذه التراجم تفسيرا بعيدا عن الحق فسحبت امتياز الجريدة وصادرت المطبعة .
وتلقيت رسالة من (سكرتير المعتمد السامي البريطاني) في بغداد يطلب إلي فيها التوجه إلى بغداد ومقابلة محمد حسين خان النواب في دار المندوبية وشعرت يوم تمت هذه المقابلة ان هنالك رغبة ملحة في استغلال قضيتي للدس والكيد لحكومتي.
وكان لي علاقة صحفية بالمغفور له جعفر باشا العسكري منذ عام 1923 وكان العسكري يشغل آنذاك رئاسة الوزارة في عام 1927 للمرة الثانية فنقلت إليه موضوع سحب امتياز جريدتي ومصادرة مطبعتي ومحاولة استغلال قضيتي فأمر رحمه الله بإعادة المطبعة إلي فورا وطلب الى الزعيم الخالد ياسين باشا الهاشمي ان يبحث عن وظيفة مناسبة لي في ديوان وزارته فعينت معاونا لمحاسب وزارة المالية فمديرا لخزينة بغداد فمديرا لحسابات مديرية الري العامة ومنها نقلت الى مثل وظيفتي في (مديرية البرق والبريد العامة) وحتى إذا أعلنت الحرب العالمية الثانية في 3 أيلول (سبتمبر) 1939 وحدث الاصطدام المسلح بين الجيشين
العراقي والبريطاني في 2 مايس (أيار) 1941 (فيما عرف بحركة رشيد عالي الكيلاني) فصلت من الخدمة لمدة خمس سنوات وأبعدت الى المعتقل (الفاو) أقصى جنوب العراق ثم إلى (معتقل العمارة) قضيت في المعتقلات أربع سنوات كتبت خلالها كتابي (تاريخ العراق السياسي) بأجزائه الثلاثة وهو الكتاب الذي نال جائزة (المجمع العلمي العراقي) لأحسن كتاب قدم في عام 1949 وطبع ست طبعات
عدت إلى الخدمة في الحكومة بعد خروجي من المعتقل وانتهاء مدة فصلي القانونية كما عاد غيري من الضباط والوزراء والمتصرفين والمدرسين وغيرهم إلى وظائفهم ثم ندبت للعمل في (ديوان مجلس الوزراء) ...
ان نوري السعيد رئيسٍ الوزراء كان مسؤولا عن زج أكثر من ألف شخص في السجون والمعتقلات في أعقاب الحرب العراقية البريطانية التي اندلعت في أيار 1941 فلما انتصر الحلفاء على دول المحور في نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 أراد نوري ان يخفف عن المعتقلين آلامهم وينسيهم ما لاقوه من ضروب المحن فصار ينعم عليهم بأساليبه الخاصة كمنح الموظف درجتين أعلى وإعطاء تعهدات حكومية الى بعض المقربين ومصاهرة البعض الآخر
وفي شباط العام 19499 استدعاني نوري السعيد وقال له: (بلغني أنك تنفق قسما من راتبك في إفساد ضمائر بعض الموظفين بغية الحصول على بعض الوثائق لكتبك التي تؤلفها وعليه قررت نقلك الى ديوان مجلس الوزراء لتبحث عما تريد) . ثم أمر بان توضع تحت تصرفي أوراق القضية الفلسطينية لكنه اسر الى رئيس الديوان (نوري القاضي) ان يمكنني من الاطلاع على ما أريد وهكذا منذ شباط 1949 عهد إلى تنظيم سجلات خاصة بتاريخ الدولة على نمط المؤسسة العثمانية (وقعي نويس) وقد قضيت في هذا الديوان أربع عشرة سنة استفدت خلالها فوائد تاريخية جليلة وكانت من اسعد ايام حياتي في الوظائف الحكومية فتعاقب على رئاسة الوزراء في بحر هذه السنوات السادة:
نوري السعيد، مزاحم الباجة جي، علي جودة الأيوبي، توفيق السويدي، مصطفى العمري، نور الدين محمود، جميل المدفعي، فاضل الجمالي، أرشد العمري، عبد الوهاب مرجان، احمد مختار بابان، عبد الكريم قاسم، واحمد حسن البكر فلم يتدخل احد منهم في عملي ولم يمسسني سوء من واحد منهم حتى أحلت نفسي على التقاعد في أواخر عام 1964
ان تدوين أحداث العراق السياسية الحديثة من الصعوبة بمكان، فان معظم أرباب العلاقة ما زالوا في قيد الحياة ولكن تمرسنا في الحياة الكتابية خلال ثلاثين عاما شجعنا على المضي في هذا السبيل الوعر على الرغم مما تعرضنا له من ضايقات وما تكبدناه من خسارات ولم ابتغ من إقحام نفسي في حلبة هذا الجهاد المتعب إلا الإسهام في خدمة البلاد من ناحية تدوين تاريخها الحديث تدوينا بعيدا عن الغرض والمحاباة.
لقد اعتاد الحسني ان يراجع كتبه نخبة من المعنيين واغلبهم من شارك في الاحداث او عرف باسرارها او له معرفة بتفاصيل الكثير من المواقع والشخصيات ممن لهم الدراية والمعرفة والنواهة .. ومن ذلك عندما كتب كتابه المهم ( الثورة العراقية الكبرى ) ، يقول :
وقد طلبت من زميلي القديم الاستاذ جعفر الخليلي ان يمعن النظر في فصول الكتاب قبل ايداعه الى الطبعة الثانية وان يوافيني بما يتراءى له من ملاحظات وتصويبات فكان ما تفضل به شيء لا يستهان بقيمته ، ولا غرو في ذلك فالمرء صغير بنفسه كبير باخوانه ، وقد اخذت ببعض هذه الملاحظات في هذه الطبعة من الكتاب وتركت البعض الاخر الى كتبي الاخرى لعلاقتها بهذه الملاحظات اكثر من علاقة هذا الكمتاب بها.