الشبابُ لن يكل.. قصّة شاب عراقي يأبى أن يبيد

الشبابُ لن يكل.. قصّة شاب عراقي يأبى أن يبيد

 علي الكرملي
أطَلَّ نهار الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، ونزل (الشباب) إلى ميدان التحرير في قلب بغداد؛ للمشاركة في تظاهرات تم التحشيد إليها قبل ذلك النهار بأيام، كانَ هو منهم، ذهبَ شأنه شأن أبناء جلدته.
بدأَت الجموع تزداد شيئاً فشيئاً، حتى حان موعد آذان العصر حسب توقيت العاصمة بغداد، مع صيحات الجوامع المُنادية للصلاة، تدفق المحتجون كالسيل الجارف نحو الخضراء، عابرين جسر الجمهورية.

”ما أن صعدنا الجسر عازمين العبور نحو ضفة الكرخ حيث الخضراء، حتى انسحَبت القوات الأمنية دون مواجهتنا، فاسحة لنا المجال للوصول. وما أن اقتربنا من نهاية الجسر، حتى تفاجأنا بظهور قوات أخرى اندفعت نحونا بالرصاص الحي والغاز المسيل“.
”تغير المسار، صرنا نتراكض رجوعاً إلى ضفة الجسر التي كنا عندها حيث الرصافة، لكننا لاقينا صعوبات جمّة حتى استطعنا الرجوع. الغاز كثيف، حجبنا عن الرؤية، نركض ونحن نختنق، ولا نرى شيئاً. هذا يسقط وذاك يقوم“.
رغم تراجعهم، لم تكف القوات الأمنية عن رمي الرصاص ولا عن الغاز المسيل، بل ولم تقف عند حاجز الجسر، اندفعَت نحو المحتجين إلى ساحة التحرير، محاولة تفريقهم بشتى الطرق وأفظعها.
بينما كان يحاول الاختباء منهم، لمح المطعم التركي قبالته، اندفع بسرعة البرق نحوه ، لكن الرصاص يلاحقه وكل من تبعه نحو المطعم، وسط كل هذا الترهيب، سلكَ الدرج تلو الآخر قاصداً أعلى المطعم، وصل مبتغاه، ثبَّتَ العلَم العراقي الذي كان يحتضنه أعلى البناية.
يقول: ”بعد أن ثبّتُّ العلَم، قمتُ بنَكتِ جسَدي، ربما أكون مُصاباً ولَم أعي ذلك“، من فرط الرصاص المرمي حوله من كل صوب، نزلَ المطعم قاصداً حديقة الأمّة، حيث نصب جواد سليم. عاد الرصاص يعلو سماء التحرير من جديد، اختبأ في نفق صغير أسفل أحد المحلات التجارية قرب التحرير.
نفق لا يتجاوز أربعة أمتار، مكث فيه قرابة نصف ساعة حتى توقف الرصاص. خرج مُسرعاً نحو السعدون، وقف هناك يتابع المشهد وبجواره رجلُ خمسيني، وهما يشاهدان القمع الذي يمارسه الأمن، أصابتهما قنبلتان مسيلتان.
الأولى أصابت قدمه خفيفاً، أما الأخرى فوقعت بكل حرارتها على يد الخمسيني الذي معه، حاول تحريك يده، لكنها انخلعَت فوراً، فقدها، وبقي بيد واحدة، هبّ به مسرعاً نحو مستشفى الراهبات. ”اليوم وبعد شهرين ونصف، ما زال يحتج رغم فقده ليده، أشاهده كل يوم في التحرير“.
هكذا انتهى اليوم الأول، جاء النهار الثاني، العنف ذاته دونما حد أو توقف، لكن هذه المرّة حاصرتهم قوات الأمن بين أفرع البتاوين القريبة من ميدان الحرية. في تلك البقعة ثلاثة أفرع فقط متاحة للنأي بجلده من الموت المحتم، لكنه تفاجئ بسيطرة الأمن على الفرعين الأول والثالث.
يتسارعون هو و /9/ آخرين قاصدين الفرع الذي يتوسّط الفرعَين الآخرَين للخلاص. يقول: ”ما أثارني وأبكاني في تلك اللحظة، أن أحدهم أصابته رصاصة في يده التي كان يحمل فيها علم الوطن، سرعان ما حَوّلَ العلم نحو يده الأخرى، رفعَهُ وركض به، لم يتركه للسقوط أرضاً“.
الأمر الآخر الذي أبكاه بحرقة، أنه من بين الأشخاص التسعة الذين يركضون معه، طفلٌ يبلغ من العمر /١٠/ أعوام، ”عَمّي والله إحنا عراقيين“، بتلك الجملة يصرخ بأعلى صوته ويركض معنا. ”ما الذي يجعل من هذا الطفل أن يردّد تلك الجملة، وكيف غرز مفهوم الوطن لديه وهو بهذا العمر؟“.
”دخَلنا الفرع، ونحن نركض وجدنا أنفسنا قبالة نهاية طريق ينفتح يميناً ويساراً، كلاهما يؤديان نحو الفرعين الذين تحت سيطرة قوات الأمن، قالوا انتَهى أمرنا، إلى هنا وانتهت مغامرتنا، لكنّني لمحت فسحة أمل“.
”لمحت حاويات للقاذورات. قلتُ لهم خلاصنا فيهن، تخَفَّينا كل /٣/ أشخاص في حاوية. جمَعنا كل الأكوام فوق أجسادنا، بحيث لا يتبين لهم شيئاً منّا“ يقول مقداد، ويُكمل، ”في هذه اللحظات قذفوا بالقنابل المسيلة، فاض المكان بالغاز“.
”اختنقت ولا أستطيع التنفس، بمجرد التنفس سيجدوننا، هم على بعد أقل من ثلاثة أمتار منا“. ماذا فعلت؟ ”لكَ أن تتخيَّل أنني مَدَدتُ يدي إلى عمق القاذورات، مسكتُها وأدخلتُها في أنفي لأجل التنفس“ لَكُم أن تستَوعِبوا ذلك.
عَدّت على خير، وخرجوا من الحاويات، لكن مهلاً، المغامرة لم تنتهِ بكل تلك السهولة، عادَ الأمن من جديد، ”هذه المرّة استسلَمنا نهائياً، وبدأنا نتشاهد على أنفسنا، بينما نتجهز لوصولهم ونهايتنا، فجأةً بباب ينفتح، «تعالوا بسرعة»، أدخَلتنا نسوَةٌ ثلاث إلى بيتهن“.
البيت هو للدعارة، بكيتُ وبكيت. ”ما بك تبكي، نحن معكم لا ضدكم“ قالت لي إحداهُن، ورَدَدْت: ”لا أبكي منكن، أبكي لأن من يقتلنا ويلاحقنا هو رجل الدين المُعَمَّم، ومن يحمينا هُوَ أنتُن“، ما هذا بحقك أيها الرب، يتنهّد مُردداً تلك العبارة.
انتهى اليوم الثاني، وجاءَ الثالث من أكتوبر، ”ذهبنا هذه المرّة عبر شارع النضال؛ لقطع الطرق المؤدية إلى التحرير من جانب السعدون وأبو نوّاس“، لكن المفاجأة أو المغامرة هذه المرّة جاءتهم قبل الوصول إلى التحرير، بالتحديد عند وزارتي التربية والتعليم، هناك واجههم الأمن.
”انهالوا علينا بوابل من الرصاص، ونحن نركض فارين نحو أزقة البتاوين، سقَطَ كهلٌ يرافقنا برصاصة أنهت حياته“، وهُنا تعَلَّقَت فيه اللحظة التي تأبى أن تفارقه كما يقول، ”اندفعَ نحوه ولَداه يبكيان ويصرخان وهما يحتضناه، وسقطَ أحدهما جريحاً“.
اللحظة التي تأبى أن تفارقه هُنا بالذات، يقول مقداد، ”بدَلَ أن نحير بمصيرنا ونهرب من الرصاص، تَسابقنا جميعنا نحو الأب وابنَيه، كل منا يسارع للوصول إليهم قبل الآخر دون أن يهتم لمصيره أو للرصاص المنصب نحوه. هُنا عرفتُ معنى الوطن“.
بينما كان ومن معه يحاولان إنقاذ أو سحب العائلة من منتصف الطريق ومن نيران الأمن، أصابته رصاصة في كف قدمه اليسرى، اخترقت باطن كفه وخرجت منها، سقطَ أرضاً. ”تمدّدنا مع الرصيف، كي لا تصيبنا الطلقَات، خلفنا بقليل صبات كونكريتية، زحفنا نحوها وظهرنا على الأرض“.
”تصوّر أن جلدنا يحتك بالشارع ونحن نزحف وصولاً إلى الصبات؛ لأن مجرد التنفس أو رفع بطنك عندما تتنفس قد تلوحك رصاصة ما. وصلنا وعبرنا بالمعجزات، تمدّدنا خلف الصبات والرصاص يقع على جانب الصبات من خلفنا“.
ما أن لاحت فرصة للهروب، انسحب، وشجّع الذي بجواره، لكنه تردّد، أسرع هو ووصل إلى بداية الزقاق الداخل نحو البتاوين، زميله حينما رآه تشجع، لكنه ما أن ركض أصابته طلقتان أردفتاه قتيلاً. ”مات شخصين وأصيب آخر قُبالتي إبّان دقائق معدودة“.
لم ينته الأمر، لاحقتهم قوات الأمن إلى أزقة المنطقة العتيقة، لكنه ما عاد يستطيع المشي، قدمه لا تسعه، حاول زملاؤه أن يحملوه، لكنه رفض ذلك، لا يريد أن يكون حملاً ثقيلاً عليهم، وأن يكون هو الضحية أفضل من أن يسقطوا معه جميعاً.
”لمحنا عربَة (ستّوتَة) مُتهالكة متروكة وسط الزقاق، وضعوني فيها، وغَطُّوني بأكياس الاسمنت المندثرة فيها، وفَرُّوا بأنفسهم“. ”وصَلوا قربي، حتى أحدهم وهو يركض باتجاه المحتجين مسك (الستوتة) بيديه ووقف عندها يتنفّس قليلاً قبل أن يرحل“.
عَدّت بخير، إن بَقِيَت بقايا خيرطبعاً. نقلوه إلى مشفى الشيخ بن زايد، وتمّت عمليته بـ /٩/ دقائق فقط، ومن دون بنج حتى، قلبه يتقَطّع ألف مرّة ومرّة طوال تلك الدقائق من كميّة الألَم. ”هُنا آمنتُ بأن الأبوين يحُسّان بابنهما إن أصابه مكروه“.
”علاوي بوية بيك شي؟ ردَدتُ عليه وأنا بالكاد أستحمل آلامي، وطمأنته بأني بخير، لكنه بقى يشك“، خرج من المشفى، وعادَ إلى أهله في بابل، وأجرى عملية جراحية تنظيفية لقدمه، كان ذلك في منتصف أكتوبر، أي قبل الاحتجاجات الثانية (٢٥/ تشرين الأول) بعشرة أيام.
طُلِبَ منه عدم التحرك على قدميه لمدة شهر، لكنه ما أن انطلقت الدفعة الثانية من الاحتجاجات حتى التحقَ بالتحرير، ذهب نحوها بالعكاز دون علم أهله، ومكث فيها منذ ذاك. قدمه تأثرت مرة أخرى، نتيجة عدم التزامه، وبحاجة إلى عملية ثالثة.
علي مقداد، الشاب العشريني، وخريج إعلام بغداد، والشاعرُ البابلي، لا زالت تعيقه قدمه، لكنه إلى الآن لم يأبه، ولم يرجع إلى بيته، بل نصب مع مجموعة من الرفاق خيمَةً تحت وسم ”طلبة كلية الإعلام“، يخدمون فيها المعتصمين والمحتجين.
ذلك الشاعر يختتم قصّته بالقول: ”لن أُبارح مكاني حتى نستخلص وطننا من اللصوص، فنحن الجيل الذي تحدّث عنا الجواهري حينما قال «سينهض من صميم اليأس، جيلٌ عَنيدُ البَأس»، ونحن الشباب الذي لن يكلّ همّه حتى يستقل بلده منهم، ولن يبيد كما لن نبيد“.