حدث هذا في العراق... حين تَغيّب الوطن..!

حدث هذا في العراق... حين تَغيّب الوطن..!

 بقلم متظاهر
الاختلاف سُنَّة الطبيعة. ومجتمع بلا اختلاف، ولا تعدد، وتباين، وتجاذبات، مجتمع بلا حياة، ميت. والرأي أساس الاختلاف، بدونه لا رأي آخر، وبالتالي لا تناقضات ولا تطور. ولكن للرأي والرأي الآخر منظومة محددات، يصعب بدونها ضبط إيقاعهما، وتحويل تفاعلهما الى معافاة المجتمع، والارتقاء به من حالة كمون، الى واقعٍ حيٍ، متطور.

العراق منذ ستة عشر عاماً من الولادة العسيرة لنظام ديمقراطي مزعوم، تحول الى مكب نفايات للآخرين. وساحة للاشتباك وتصفية الحسابات. لكنه في مجرى الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، صار العراقيون وقوداً، والعراق لم يعد معبراً، ولا ساحة اشتباكٍ، تحكمه توقيتات لفك الاشتباك والرحيل. وصراعهما صار يمر على أجداث الآلاف من العراقيين، ومع الوقت، لم تعد البلاد ساحة اشتباكٍ، وصراعٍ بين البلدين، بوسائلهما العسكرية والبشرية والاقتصادية. بل إن الوطن العراقي نفسه صار الضحية المُغيّبة، وتحول العراق ساحةً، ومواطنين وثروات، تخوض معاركهما بالنيابة، بكل ما تقتضيه، وتلزمه من التمكين.
وحين استفاق جيلٌ عراقي نبيلٌ جسورٌ، أنهكه انتظار بارقة أملٍ يبشرباستعادة وطنه، ليحيا مثل البشر، ويتطلع في كل اتجاهٍ دون أن يستهدفه الموت أو الانكسار أو تمريغ كرامته، وإلغاء وجوده الإنساني، وجد نفسه غريباً، وسط بيئة تحتقر قيمه الوطنية. وتجد حضورها مشدوداً لغير الوطن، صفيقا بإنكاره، وتجبُّره وهو يُفصح عن سخريته من العراقيين الذين يريدون استعادة وطنهم المغتصب والمصادر في ساحة الصراع بين الولايات الأميركية وإيران.
المفارقة الموجعة، أن الجيل الثائر على من ضيّع وطنه، واستباح مقدراته، وعاث فساداً في كل ركن تمكّن منه، لم يكن جزءاً من لعبة الاشتباك والصراع، لأنه، وربما كل عراقي شريف، ظلّ مقصيّاً عن أي مركزٍ للقرار فيما تبقى له من شبه "خرابةٍ" سُمُيّت بدولة. لأن من حكمها وتسلط على خيراتها ومقدراتها ومصائرها، هم ذات الطبقة السياسية، التي باتت تتعامل مع "الوطن" بوصفه موضوعاً للنهب والاستباحة، والبيع بالتجزئة في سوق النخاسة لأولياء أمرها، دون حاجة حتى لـ"المزايدة".!
لم يكن لجيل ما بعد 2003 أي حضورٍ في المساومة على سيادته للمحتلين الذين مروا من أمام أنظارهم ورحلوا، ومن بقي يعيد ترتيب أوضاعه على حساب العراق وشعبه. لم يكونوا، موضع مساومة على رئاسة أو وزارة او حتى آذنٍ، لأن من أداروها باسم الدين والإسلام السياسي، هم كانوا آباءها المؤسسون، واولياء امرها، ومن تحكم في كل صغيرة وكبيرة.
كل قادة ورموز العملية السياسية، الذين انفردوا بالحكم جاؤوا بقرار أميركي دون أي شريكٍ أو استثناء. كان السفير الأميركي وأركان سفارته، يستقبل مرشحيهم في السفارة، بدءاً من حديث النعمة إبراهيم الجعفري الحاكم "بأمر الله"، وصولاً الى "ولي الدم" و"مختار العصر" ، يطلع على سيرة حياتهم من ألسنتهم، ويحاججهم عن كل مراحل سيرتهم، ثم يعاين السير ويطابقها مع منافسيه وأقرانه في العملية السياسية، ليستدعيهم بعد أن تكتمل ملفاتهم، ويُجري معهم جردة حساب أخيرة، يتناول فيها اتجاهاتهم في الحكم، ومدى التزامهم بالوجود الأميركي ومصالحه ثم يهنئهم ويدعوا لهم بالتوفيق.
الجعفري تنازل عن رئاسة الوزراء لصالح زميله الذي انقلب عليه، بعد تهديدٍ غير مُبطنٍ من السفير خليل زاد كما جاء في مذكراته. وصور المرحلة المنشورة في موقع رئيس الوزراء ومعاهدة التعاون الأمني التي مررها البرلمان في عهد المالكي وخطبته في الكونغرس شاهدٌ على أنه وزميله وأقرانهما، كانوا "جواكر" أميركية بامتياز. وتحولهما الى جواكر إيرانية ليس دقيقاً، لان السفارة الأميركية كانت حريصة عبر وسطائها من الطبقة السياسية الحاكمة، على عدم التقاطع مع وجهة النظر الإيرانية، وهي سياسة ظلت متواصلة حتى هذه اللحظة حيث يحيط الحشد الشعبي بكل أركانه وقياداته بأسوار السفارة الأميركية.
اصبح تاريخ العراق وسيرته خلال ستة عشر عاماً، طائفة من البدع السياسية المبتكرة. حاز بفضلها على مواقع في ذيل الأمم والشعوب في كل مجالٍ وميدانٍ من مجالات العلم والصحة والخدمات والتعليم، باستثناء الفساد والتحريم والتعديات حيث صار في مقدمتها والأوائل فيها.
العراقي ظل مشدودًا طوال تاريخه، للوطنية، ولمفهوم الوطن، باعتبارهما القيمة الأسمى، فازاحتهما الطبقة المهيمنة باسم الإسلام الى الخلف لتشوههما بالهويات الفرعية، الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية، واستباحت الكل بالكل في حروبها ومراسيم القتل والاقصاء والتهجير على الهوية.
في مشهدٍ صادمٍ، فُتحت أبواب الخضراء لتعبر منها مواكب تحمل عشرات الاعلام وهي تؤشر لجماهير "شعب الحشد" وفي مقدمة المواكب رموزٌ دالة بشخوصها على قيادات مسؤولة في الدولة، على رأس أجهزتها الأمنية والعسكرية، وعلى رأس الكتلة التي تدعي انها الأكبر والأجدر في تشكيل الحكومة الانتقالية التي "تجسد الإرادة الوطنية" !
المشهد يُسجل اكثر من مأثرة جديدة لصالح حكامنا الافذاذ. ويستحق كل واحدة منها ان تحتل موقعها في موسوعة غينيس للابتكار والأولوية. فهي المرة الأولى في التاريخ الحديث حيث يترأس قادة مقررون في البلاد مظاهرةٌ لـ"شعب الحشد" كما اطلق عليهم أحد منظريهم، تحاول احتلال سفارة "دولةٍ حليفةٍ" للقادة المتحكمين في العراق بلا منازع، المدينون لها بما هم عليه الآن، وفقاً للاتفاقية التي هم من وقعها، ومررها في برلمانهم وبأصواتهم العلنية.
المشهد لا يكتمل دون قراءة الشعارات التي كتبت على جدار السفارة. فالعراقي يكتشف لأول مرة من هو قائده بالنيابة. ويتأكد من أن استقلاله وسيادته لن تتحقق الا بشعار أمريكا بره بره ،ايران تبقى حره..
كان المشهد غريباً، لأن العراقيين كانوا حتى لحظة اطلاق الهتافات، يقولون إن الطائرات الاميركية قصفت مواقع عسكرية عراقية، وقتلت عراقيين ابرياء، واعتدت على السيادة العراقية، ولأنها كذلك فانها تهم كل وطني عراقي، وتستفزه، مما يدفعه لإدانة كل اعتداءٍ على سيادة وطنه، ويطالب برفع كل يدٍ تعلو على يد العراقيين وتعبث بمصيرهم . فإذا بهم ان الامر خلاف ذلك، وانه مفاضلة بيت عدوان اميركي، وحضورٍ ايراني.
ومن مآثر المشهد ان العراقي صار له تقسيم آخر باعتبار من حاول حرق السفارة الاميركية بوصفه "شعب الحشد" والمعتصمون في ساحات الحرية والتغيير شعب يبحث له عن هوية .!
العراق ينتفض، لاسترجاع هويته الوطنية وحمايته من كل عدوان، وتحريره من كل قيدٍ، وفك ارتهانه من كل املاءٍ ووصايةٍ وتجسيرٍ لمصالح الغير ، أياً كان.
وتظل ساحات التحرير، إذ تناجي الوطن، لصيقة سلميتها، وعدالة قضيتها وهي ترفع شعار "نريد وطناً"، مُبرءاً من منازلات الآخرين، سيداً مستقلاً، يرفض التبعية والعدوان، يعيش فيه شعب واحد..