عقلانية شحرور وتحجر الكهنوت

عقلانية شحرور وتحجر الكهنوت

علاء الدين الخطيب
قال الدكتور محمد شحرور، رحمه الله، أن بدايات توجهه لدراسة النص المقدس دراسة نقدية عقلانية كانت مع أول صدام له مع الشيوعية، وذلك إبان دراسته للهندسة في الاتحاد السوفييتي السابق، حيث وجد أن الشيوعية، الفاشلة على أرض الواقع، متماسكة منطقيا وفكريا كنظرية؛ بينما كانت حججه تنهار بسرعة أمام المحاكمة المنطقية والعقلانية، لأنه كمؤمن ومسلم تلقى ما يتلقاه جميع المسلمين في بلادنا من تعليم ومنهجيات تفكير عفا عليها الزمن وشرب.

لقد أدرك عندها أن المشكلة تكمن في منهجيات وعادات ومقدسات القراءة النقلية للنص المقدس، وليس بالدين كدين.
إذاً بدأت رحلة الدكتور محمد شحرور كمفكر عقلاني ناقد ومتحرر من قيود الموروث وتعصبات الناقلين والمتبعين في ساحة الصدام مع الشيوعية. فانطلق من إيمان راسخ بالله والإسلام، ليؤسس لمنهج تفكيري علمي نقدي يضع العقل فوق النقل، ويقدم المنطق على كل الخطوط الحمراء التي رسمها شيوخ وفقهاء الإسلام من كل الطوائف والمذاهب والفرق، معتمدا على قراءة تحليلية حداثية للنص القرآني المقدس، بالأخذ بأدوات اللغة نحواً ودلالةً.
لقد أطلق الدكتور شحرور مع غيره من مفكرين إسلاميين حداثيين ومفكرين علمانيين، مثل الصادق النيهوم، وفرج فودة، وجلال صادق العظم، ومحمد سعيد العشماوي، ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، شعلة التجديد في منهجية التعامل مع الدين الإسلامي، بعد أن كادت طبقة رجال الدين الإسلامي، من كل المذاهب، والسلطة السياسية والأحزاب السياسية أن تدفن نهائيا ما بدأه الشيخان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، بعد قرون طويلة من الجمود الفكري الإسلامي والفقهي.
لكن الرياح جرت عكس ما سعى له هؤلاء المفكرون، مشهورين أو مغمورين. فقد انطلقت ما تم تسميتها الصحوة الإسلامية منذ نهاية السبعينات، مع صعود نجم الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، واستيلاء الخميني على الثورة الإيرانية وتحويلها لثورة إسلامية، تصادمت أول ما تصادمت مع الضفة الغربية للخليج العربي، لتنبعث الفتنة الشيعية السنية، كأداة صراع سياسي بيد الحكام في كل هذه الدول. فانهمرت أموال النفط تعيث فسادا في تديُّن الناس، وتحيي مناهج التعصب الإسلامي السني والشيعي، تحت غطاء نصرة الإسلام.
لقد كان تيار الحداثة والتنوير الإسلامي نتيجة حتمية لتطور المجتمعات والعلوم والعقل البشري، وكان أيضا ضرورة أساسية للانتقال من عصر حكم السلاطين الشمولي وسيطرة طبقة رجال الدين على المجتمع، إلى مجتمع حداثي عصري يستطيع الاستمرار والاستقرار وبناء الدول الناجحة.
لكن شيوخ الدين الإسلامي، بغالبيتهم وبمختلف ألقابهم ما بين فقيه وعالم ومحدث وإمام، وبكل مذاهبهم، استشعروا خطر هذه الموجة العقلانية التي تهدد سطلتهم وامتيازاتهم. فاستنهضوا الهمم واستغلوا المشاعر الدينية العاطفية للناس، فأوهموا المسلمين أنهم ليسوا كهانا يكررون ويقدسون ما قاله مشايخهم واساتذتهم في مئات المذاهب والفرق، فحولوا كل فكر جديد بدءا من الديمقراطية والعلمانية ومرورا بالاشتراكية والليبرالية والشيوعية وليس انتهاءً بشريعة حقوق الانسان الدولية إلى كفر وزندقة ومعاصٍ، واتهامها أنها جزء من مؤامرة كونية ضد الإسلام، تقوم على خرافات وأوهام رعوها وكبّروها لتزيد من مشاكل هذه المجتمعات.
وقد كان أهم ما منح التيار الديني التقليدي سلطته وقوته هو تواطؤ السلطة السياسية في كل البلاد العربية والإسلامية مع صراخ شيوخ الإسلام التقليديين. فالسلطة السياسية الديكتاتورية الأمنية لا يناسبها أي فكر ثوري نقدي عقلاني لأنه سيصل بالمحصلة إلى تهديد سلطتها نفسها. ولا يمكن التوهم أن من تواطء كان فقط السلطة السياسية التقليدية، بل أيضا من حملوا شعارات التقدمية والاشتراكية والقومية، ومن ربطوا رقابهم بربطات عنق أنيقة وصافحوا نساء بدون حجاب؛ فالديكتاتورية لا تتجزأ وتعرف أعدائها جيدا.
لم ينجُ الدكتور محمد شحرور من حملات التكفير والزندقة والاتهامات السلبية من كل نوع، فهو نقد أسس الفكر الإسلامي التقليدي، الذي بقي مسيطرا على العامة والخاصة لمئات السنين. الدكتور شحرور أعلن لهم أن كل ما كتبه وقدمه القدماء من سلف وتابعين لا يلزم المسلمين إلى يوم الدين، بل هو قراءتهم وفق عصرهم ومكانهم، ومن حق المسلمين إعادة قراءة القرآن بمعايير وعقلية القرن العشرين، وأن لا مقدس لأي تفسير أو اجتهاد وضعه شيوخ المسلمين عبر قرون طويلة. هو ببساطة تحدى سلطة شيوخ الإسلام التي بنوها على عقول الناس ودينها، من خلال احتكارهم للتفسير والتأويل والفتوى والأحكام، فلا أفادوا الإسلام ولا المسلمين في العصر الحديث.
قد يختلف الانسان مع بعض أو كل ما قدمه الدكتور محمد شحرور، لكن ذلك لا يلغي ولا يقلل من حقيقة أنه إنسان ذو عقل وعلم وجهد واجتهاد وإبداع وشجاعة قل مثيلها.
هو عرف الطريق الصحيح لكي يمتلك المسلمون دينهم، ويحرره من سلطة رجال الدين. إن كان من خلاف معه في التفاصيل أو المنهج، لكن التوجه يبقى صحيحا وضرورة لا بد منها إن كان يريد المسلمون أن يحرروا أنفسهم ودينهم ودولهم من الديكتاتوريات الدينية والسياسية والاجتماعية، وسيطرة الأوهام والتعصب وضيق الأفق.
الدكتور شحرور لم يلقَ ما يستحقه من تقدير ودعم وإعلام ليساهم مع المفكرين الصادقين في رسم خريطة طريق للإقلاع نحو العصرنة والحداثة. ظلمه الإعلام، وظلمه شيوخ الاسلام ودعاته وإعلامهم، وظلمه من يصدق الاثنين.
كثيرون ممن هاجموا الدكتور شحرور وغيره متعصبون لذاتهم وليس لإسلامهم، لأنهم لا يرون في شيخ يدعو لشرب بول البعير، أو إطاعة الحاكم الظالم، أو قتل المخالفين للمذهب والطائفة، أو تحريم معايدة غير المسلمين، أو شحذ شباب المسلمين للانخراط في المليشيات الجهادية سنية وشيعية، التي امتهنت الإرهاب والقتل، سوى “عالم اجتهد فأخطأ”، وفي أقسى نقدهم لأي من هؤلاء الشيوخ يقولون “إنهم خوارج”.
بل إن قراءة ومتابعة ما يقوله كثير من الشيوخ، وكتائب مريديهم، يضعنا أمام كارثة أخلاقية أولا، ثم كارثة فكرية. فالانحدار الأخلاقي في مهاجمة الدكتور شحرور ومن شابهه، لم يأت من “متحمسين غاضبين لدينهم” كما يبرر مشاهير الشيوخ والفضائيات، بل أتى من منهج أسسه شيوخ الطوائف عبر قرون طويلة من التحارب فيما بينهم، وتحت ظل علاقة ملتبسة مع السلطة السياسية الديكتاتورية، إنه منهج يعبر عنه الحديث الشريف، سواء صح أم لم يصحّ، حول أحد آيات المنافق “وإذا خاصم فجر”.
أما الوجه الآخر للمأساة فهو فجور من انتقل من تعصب الدين إلى تعصب ضد الدين، فنشأت أيضا تيارات لا تترك فرصة للتهجم على كل مقدس ديني، إسلامي أو غيره، وتوزيع اتهامات التخلف والجهل والإرهاب على كل المسلمين، والنظر لهم كطبقة أقل إنسانية من غيرهم. فاشتعلت حرب الإنترنت بين تعصبين يبدوان متناقضين من حيث الشكل، لكنهما من نفس الجوهر، إنه جوهر عدم احترام الإنسان كإنسان إلا إذا كان معهم في نفس الخندق.
الرحمة لرائد الفكر والعقل والعطاء المسلم الدكتور محمد شحرور.