في ذكرى رحيله يوم 7 كانون الثاني 1947..الكرملي ومجلته الشهيرة (لغة العرب)

في ذكرى رحيله يوم 7 كانون الثاني 1947..الكرملي ومجلته الشهيرة (لغة العرب)

كريم عبد الحسن الفرج
إن فكرة إصدار مجلة في العراق كانت تراود مخيلة الأب انستاس الكرملي لأن العراق لم تكن فيه مجلة بمستوى المجلات التي كانت تصدر في الأقطار العربية الأخر، على نحو مجلة المقتطف والهلال المصريتين، والمقتبس والهلال السوريتين، والآثار والمسرة اللتين صدرتا في لبنان، وغيرها من المجلات العربية التي كان الكرملي ينشر مقالاته فيها.

من دون شك فإنه كان يدرك المستوى الذي كانت عليه مجلة "زهيرة بغداد"، التي لم تصل إلى مستوى المجلات العربية المعاصرة لها فسعى إلى إصدار مجلة جديدة أطلق عليها أسم مجلة "لغة العرب"، والأسم وحدة ذو دلالات مهمة ينطوي على متضمنات قومية.
ومن الطبيعي فإن الأب كان مدركاً الحال التي كانت عليها اللغة العربية في العهد العثماني. فضلاً عن ذلك فإنها تكون منبراً ثقافياً للتعريف بالعراق والحياة الثقافية والاجتماعية فيه، وهو الأمر الذي أشار إليه صراحة في مقدمة العدد الأول الذي صدر في تموز 1911 إذ قال إن ((الغاية من إنشائها أن نعرف العراق وأهله ومشاهيره، بمن جاورنا من سكان الديار الشرقية، وبمن نأى عنا من العلماء والباحثين والمستشرقين في الأقطار الغربية)). وفي الوقت نفسه تعريف المثقفين العراقيين بالبحوث والدراسات التي تصدر في أوربا وغيرها لأن ((أغلب المجلات والجرائد والصحف السيارة تبحث عن بلاد أصحابها ورجاله، ولا تذكر إلا النزر التافه عن هذه الأرجاء وذويها)).
كان لصدور مجلة "لغة العرب" صدى ملموس في الصحافة العراقية والعربية، فقد نشرت عددٍ من الجرائد والمجلات العراقية والعربية خبر صدور العدد الأول من المجلة، والمتضمن أهدافها وخطتها، وتمنت لها الاستمرار في خدمة اللغة العربية وآدابها.
كانت مجلة "لغة العرب"، خلال مسيرتها في سنوات الحكم العثماني، المجلة الرائدة في العراق، وكانت السباقة إلى نشر البحوث الأدبية التاريخية والقصائد الشعرية، أخذت على عاتقها الدفاع عن اللغة العربية والمحافظة عليها، تولت مهمة تصويب الأخطاء اللغوية في الصحف العراقية. لذلك كان من الطبيعي أن يثير نشاط المجلة في هذا المجال حكومة الاتحاديين التي وقفت ضد كل الدعوات القومية، أخذت تتحين الفرص لإغلاق المجلة، والتخلص من صاحبها، فما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى سارع الاتحاديون إلى نفي الأب انستاس الكرملي إلى مدينة قيصرى في الأناضول، وإغلاق المجلة، بعد أن أتمت سنتها الثالثة، وصدر جزءان من السنة الرابعة.
عاد الكرملي من منفاه إلى العراق عام 1916، غير إن ظروف الحرب والخشية من تنكيل الاتحاديين، وارتفاع الأسعار حال دون إصدار المجلة من جديد، وهذا الأمر أشار إليه أحد محرريها، ففي 8 نيسان 1917 كتب كاظم الدجيلي إلى الكرملي رسالة بهذا الشأن، ويبدو إن وجهات نظرهما كانت متفقة بخصوص عدم استئناف إصدار المجلة في ظل الظروف آنذاك.
بعد قيام الحكم الوطني عام 1921، حاول الكرملي استئناف إصدارها مرة أخرى لا سيما بعد أن تمكن من شراء مطبعة من أوربا في منتصف عام 1921، غير إن جهوده لم تتكلل بالنجاح، بسبب تأخير الحكومة الأمر بإجازة المطبعة وعرقلة بنائها. بقيت المجلة مغلقة حتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، حيث تجددت الرغبة لدى الأب لاستئناف إصدار المجلة بسبب الرسائل الكثيرة التي كانت تصل إليه من المفكرين العرب والأجانب، مطالبة بالعودة إلى إصدار المجلة.
على ما يبدو فإن الظروف أصبحت ملائمة عام 1926 لإصدارها من جديد، إلا إن الأب الكرملي أختار شهر تموز لأنه الشهر الذي صدرت فيه لأول مرة، وأعتبر أعدادها مكملة لأعدادها الأولى التي صدرت قبل الحرب. رحبت الأوساط الأدبية، والعلمية، والصحافة المحلية باستئناف صدور المجلة وكان نبأ مدعاة لسرور عدد كبير من المثقفين، إذ تلقى الأب عددٍ من الرسائل، يهنئونه فيها ويباركون له جهده ومسعاه، ففي رسالة إليه بارك الشيخ عبد المولى الطريحي من النجف، صدور العدد الأول من المجلد الرابع من المجلة إذ قال: ((سررت جداً لما استنبأت بصدور العدد الأول من المجلد الرابع "للغة العرب" التي أحيت آباءنا وأجدادنا العرب وسنثابر على هذا كي نخلد ذكراً مجيداً))، كما حيت جريدة "الفضيلة" في عددها الصادر في 18 تموز 1926 عودة المجلة إلى الصدور وتمنت لها التقدم والانتشار السريع، وبارك أحد المثقفين في بغداد في رسالة إلى الأب الكرملي استئناف إصدار المجلة فقال ((سررت جداً لما أطلعت هذا اليوم على ما نشر في العالم من استئنافكم إصدار مجلة لغة العرب الزاهرة ، تلك المجلة الذائعة الصيت بغزارة مادتها الأدبية والعلمية والتاريخية لكل من ينطق بالضاد)).
كان مجموع ما صدر منها بعد معاودتها الصدور ستة مجلدات، وبذلك بلغ مجموع ما صدر منها حتى عام 1931، تسعة مجلدات حوت مائة وعشرة أجزاء.
على الرغم من إن إدارة مجلة "لغة العرب" بذلت جهوداً كبيرة لتخطي الصعوبات التي واجهت إصدارها، غير إن الصعوبات المالية التي كانت تعاني منها ،بسبب ارتفاع الأسعار، مما أدى إلى زيادة نفقات طبعها، وقلة وارداتها بسبب تلكؤ المشتركين في دفع بدل الاشتراك، وازدياد عدد المجلات الصادرة في العراق، والمضايقات التي كان يتعرض لها الأب الكرملي في الدير الذي كان يقيم فيه من لدن الرهبان الآخرين، حالت من دون استمرارها.
قد أشار الكرملي إلى المشكلات التي واجهته في عملية إصدار المجلة صراحة في نهاية الجزء الثاني عشر من السنة التاسعة، التي أعلن فيه توقف المجلة عن الصدور فقال: ((قد عزمنا عزماً أكيداً ألا يحتمل الرد والاستئناف على إغلاق المجلة من الآن لأننا مع مقاساتنا أتعاباً جمة ومشاقٍ هائلة ناهكة، كنا نكابد خسائر باهظة طول سنين صدور المجلة، حتى لم يبقَ في قوسنا منزع ولا في همتنا مكنة، نضيف إلى ذلك تضاؤل المعنيين، وقلة المعاضدين من أبناء لغة الضاد، الذين أخرجنا هذه المجلة الموءودة للتنويه بهم وبلغتهم وتاريخهم. وقد صبرنا هذا الصبر الأيوبي، حتى أعذرنا كل معاتب ولائم، وليس على الإنسان أن يركب المستحيل ويجازف في ما تسوء عقباه)). واستناداً إلى قانون المطبوعات رقم 82 لسنة 1931، صدر الأمر بإلغاء امتياز المجلة في 17 كانون الأول 1945.
عن: رسالة (الاب انستاس ماري الكرملي ودوره...)