طارق علي يكتب: بماذا كان يفكر لينين؟

طارق علي يكتب: بماذا كان يفكر لينين؟

ترجمة احمد الزبيدي
هذا المقال بقلم المفكر طارق علي نشرته صحيفة نيويورك تايمز. بماذا كان يفكر فلاديمير لينين في رحلته الطويلة من فنلندا الى بتروغراد في عام 1917؟
مثل أي شخص آخر، فانه قد فوجئ بالسرعة التي نجحت فيها ثورة شباط -فبراير.وبينما كان يسافر من زيوريخ عبر أوروبا إلى روسيا، على متن القطار الذي قدم له من قيصر ألمانيا، فلا بد انه فكر بانها فرصة لا ينبغي تفويتها.

كان من المتوقع ان تهيمن الأحزاب الليبرالية الضعيفة على الحكومة الجديدة. ما كان يزعجه هو التقارير التي كانت تصله عن رفاقه البلاشفة المترددين في السير إلى الأمام. وكانت النظرية الملزمة لهم،والتي تقيدهم جنبا إلى جنب مع معظم فئات اليسار،هي العقيدة الماركسية التي كانت تنص على ان الثورة في روسيا ، في هذه المرحلة، لا يمكن أن تكون إلا ثورة برجوازية ديمقراطية. الاشتراكية ممكنة فقط في الاقتصادات المتقدمة مثل ألمانيا أو فرنسا أو حتى الولايات المتحدة، ولكن ليس في روسيا الفلاحية (وكان ليون تروتسكي ومجموعته من المثقفين بين عدد قليل من المنشقين عن هذا الرأي.)
وطالما ان مسار الثورة محتوم هكذا، فكل ما يمكن للاشتراكيين أن يفعلوه هو تقديم الدعم للحكومة المؤقتة وهي تجتاز المرحلة الأولى للثورة، الى حين ينتقل المجتمع الى الرأسمالية بصورة كاملة. وبمجرد الانتهاء من هذا الانتقال، حينها يمكن لهم أن يستنهضوا الهمم للقيام بثورة أكثر جذرية.
هذا المزيج من الدوغمائية والسلبية اغضب لينين. وكانت اضطرابات فبراير- شباط قد أجبرته على إعادة النظر في العقائد القديمة. وبات يؤمن انه من اجل المضي قدما، ، يجب ان تكون هناك ثورة اشتراكية . وليس بالامكان ايجاد حل آخر . كان يجب تدمير جذور الدولة القيصرية وفروعها. لذلك وكما قال عند نزوله من القطار في بتروغراد: لا حل وسط ممكن مع الحكومة التي تستمر في مواصلة الحرب أو مع الأحزاب التي تدعم مثل هذه الحكومة.
كان شعار البلاشفة المرحلي هو "السلام والأرض والخبز." أما بالنسبة للثورة، فان لينين الآن بات يؤمن ان سلسلة الرأسمالية الدولية يمكن ان تكسر في أضعف حلقاتها. وان انتصار العمال والفلاحين الروس في انشاء اول دولة اشتراكية سيمهد الطريق لاندلاع التمرد في ألمانيا وأماكن أخرى. وبدون ذلك، كما كان لينين يقول، سيكون من الصعب بناء أي شكل معين للاشتراكية في روسيا.
وقام بشرح هذا النهج الجديد في كتابه "أطروحات أبريل - نيسان"، لكنه اضطر الى خوض الصعاب من اجل إقناع الحزب البلشفي. وحين اتهمه البعض بانه يدير ظهره للمذهب الماركسي الذي كان يعتنقه، استشهد لينين بمقولة لأحد الشياطين السبعة الرئيسيين في مسرحية فاوست للاديب الالماني غوته "": "النظرية، يا صديقي، رمادية اللون، ولكن شجرة الحياة خضراء الى الابد." وكانت الناشطة النسوية الكسندرا كولونتاي من أوائل المؤيدين له . فقد رفضت هي أيضا، الحلول الوسط لأنها، كانت تعتقد بعدم امكانية وجود خيار آخر
يمكن القول ان الفترة الواقعة مابين شباط وتشرين الاول .، هي الفترة الأكثر انفتاحا في تاريخ روسيا، انتصر لينين في حزبه، انضمت القوات الى تروتسكي استعدادا لثورة جديدة. رفضت الحكومة المؤقتة بزعامة الكسندر كيرينسكي الانسحاب من الحرب. وهاجم المحرضون البلاشفة في صفوف المقاتلين في الجبهة تذبذب كيرينسكي وتردده. وانتشر التمرد على نطاق واسع وازدادت اعداد الفارين من الجبهة.
، بدأت ستراتيجية لينين لجذب أعداد كبيرة من العمال. تعمل من خلال مجالس العمال والجنود ، أو السوفييتات ،فاز البلاشفة بالأغلبية في سوفييتات بتروغراد وموسكو، ونما الحزب بسرعة كما لم يحدث في أي مكان آخر. هذا الاندماج بين الأفكار السياسية للينين وتنامي الوعي الطبقي بين العمال أنتج صيغة لشهر أكتوبر.
ان ثورة أكتوبر ربما تكون الانتفاضة الاكثر تخطيطا لها علنا في التاريخ. بقي اثنين من أقدم رفاق لينين في اللجنة المركزية للحزب يعارضان القيام الفوري بالثورة ونشرا تاريخ الحدث.. في حين كان من الواضح ان التفاصيل النهائية لم يعلن عنها مسبقا، وجرت السيطرة على الاوضاع بشكل سريع و بالحد الأدنى من العنف.
لكن كل ذلك تغير مع الحرب الأهلية التي تلت ذلك، والتي كانت مدعومة من أعداء الدولة السوفيتية الوليدة المتمثلين بحلفاء القيصر الغربيين السابقين. وسط الفوضى الناتجة والملايين من الاصابات، سيطر البلاشفة أخيرا - ولكن بتكلفة سياسية وأخلاقية باهضة، بما في ذلك الانقراض الفعلي للطبقة العاملة التي هي كانت في الأصل من قام بالثورة.لم يكن الخيار الذي أعقب ثورة أكتوبر 1917 بين لينين والديمقراطية الليبرالية. كان الخيار الحقيقي قد تحدد بدلا من ذلك في الصراع على السلطة بين الجيش الأحمر والجيش الابيض، وهذا الأخير كان بقيادة جنرالات الحكم القيصري الذي لم يخف نيته إذا ما انتصر ، بابادة كلا من البلاشفة واليهود وقد نفذ الجيش الابيض مذبحة محا بها قرى يهودية باكملها. وخاضت غالبية اليهود الروس القتال إما كجنود في الجيش الأحمر أو في الوحدات الحزبية الخاصة. ولا ينبغي أن ننسى انه بعد بضعة عقود، فإن ذلك الجيش الأحمر – الذي تشكل أصلا ابان الحرب الأهلية من قبل تروتسكي، وميخائيل توخاشيفسكي وميخائيل فرونز (الاثنين السابقين قتلا في وقت لاحق على يد ستالين) - قد قصم القوة العسكرية للرايخ الثالث في المعارك الملحمية في كورسك وستالينجراد.و بحلول ذلك الوقت، كان لينين قد مات منذ ما يقرب من عقدين من الزمن.
كان لدى لينين متسع من الوقت للتأمل في إنجازات ثورة أكتوبرقبل ان يصيبه الوهن جراء الجلطة التي اصيب بها قبل عامين من وفاته في عام 1924، لم يكن سعيدا. لقد رأى افعال الدولة القيصرية وكيف كانت ممارساتها، وبعيدا عما تعرضت له من تدمير، فقد أصابت البلشفية. وتفشت المشاعر الشوفينية بين الروس وكان يؤكد على انه لا بد من اجتثاثها،. واصبح المستوى الثقافي لاعضاء الحزب في حالة يرثى لها بعد الخسائر البشرية التي نجمت عن الحرب الأهلية.
وكتب لينين في صحيفة برافدا يقول "جهاز الدولة لدينا مؤسف جدا، كي لا نقول ردئ"، وأضاف "الشيء الأكثر ضررا سيكون الاعتماد على افتراض اننا نعرف على الأقل شيئا.ما"
"لا"، هكذا ختم مقالته ". نحن عاجزون بشكل يبعث على السخرية" يجب ان تعترف الثورة باخطائها وتجدد نفسها، و انه يؤمن. انه خلاف ذلك، فإنها ستفشل. ومع ذلك فان هذا الدرس ذهب أدراج الرياح بعد وفاته. تم تجاهل كتاباته إلى حد كبير أو شوهت عمدا. وفيما بعد لم يظهر أي زعيم سوفياتي يحمل رؤية لينين.
وكتب ونستون تشرشل الذي لم يكن معجبا بالبلشفية يقول"كان عقله أداة رائعة"،. وأضاف "وعندما أضاءت انوارها كشفت للعالم كله، تاريخه ، وأحزانه ، وتفاهاته، وعوراته، وقبل كل شيء، أخطاءه."
ولم يكن احد من خلفائه، ما عدا الزعيمين الاصلاحيين المعروفين - نيكيتا خروشوف في الخمسينيات والستينيات و ميخائيل غورباتشوف في الثمانينيات – يمتلك القدرة على نقل البلاد الى حال افضل. وكان انهيار الاتحاد السوفيتي نتيجة طبيعية تماما للثقافة السياسية المتدهورة و في بعض الأحيان، والعجز المثير للسخرية للنخبة البيروقراطية الحاكمة - كما تعود اسبابه إلى الركود الاقتصادي والاعتماد على الموارد الذي لم يقنن منذ السبعينيات. وكان هاجس قادته في محاكاة التقدم التكنولوجي للولايات المتحدة، قد جعل الارض تميد من تحت أقدامهم. وفي الفصل الاخير المؤسف للثورة، فان عددا ليس بالقليل من البيروقراطيين كشفوا عن أنفسهم كاصحاب ملايين ومن الاقلية الثرية – وهذا الشيء كان تروتسكي قد توقعه في عام 1936وهو في منفاه
"السياسة هي تعبير مركز عن الاقتصاد،"هكذا لاحظ لينين ذات مرة. وعندما تتعثر الرأسمالية، فان ساستها، و داعميهم من الأقلية الثرية يجدون الناخبين الذي يشقون صفوف أحزابهم زرافات ووحدانا. والتحول إلى اليمين في السياسة الغربية هو ثورة ضد التحالفات الليبرالية الجديدة التي تحكم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. واليوم، ومع ذلك، فإن السياسيين لا يمكنهم إلقاء اللوم على الاشتراكية كما فعلوا في السابق - لأنها غير موجودة.
وقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،ذو النزعة القومية المحافظة لن تقام احتفالات هذا العام في روسيا لا بمناسبة ثورة فبراير ولا ثورة أكتوبر. وأضاف "انها ليست على تقويمنا" كما صرح لاحد الصحفيين الهنود من معارفي .
" كتب لينين عن الثوريين يقول "بعد موتهم تكون هناك محاولات، مصطنعة لتحويلهم إلى رموز غير ضارة، وتمجيدهم، ودعني اقول، حتى لتقديس أسمائهم إلى حد ما كنوع من 'العزاء' للطبقات المضطهدة وفي سبيل خداعها ". وبعد وفاته، وبالضد من نداءات وصرخات أرملته واخواته، فقد تم تحنيط لينين، وعُرض على الملأ وعومل وكأنه قديس من روما. كان قد تنبأ بمصيره.
 عن: النيويورك تايمز