قصة الاعتقال والاعتداء عليه سنة 1963

قصة الاعتقال والاعتداء عليه سنة 1963

د سيار الجميل
لم يكن الدكتور عبد الجبار عبد الله يظن يوما انه سيساق إلى المعتقل ويهان اهانة شديدة، لا لجرم إلا كونه رئيسا لجامعة بغداد على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم. ويبدو أن علماء العراق واكاديمييه المبدعين لم يتخلصوا أبدا من أحقاد السياسيين التافهين، فيتهموا بشتى التهم الدنيئة.. هكذا سيق عبد الجبار عبد الله من قبل الحرس القومي ميليشيا البعثيين إلى واحدة من الزنزانات واهين وضرب على يد احد طلبته الأغبياء، بتهمة كونه محسوبا على اليسار العراقي، ودفع ثمن هذا الاتهام، بإحالته على التقاعد اثر انقلاب 1963.

كان طوال بقائه معتقلا مشدوها مما يحدث له، إذ لم يكن يتخّيل أبدا انه سيعامل بمثل تلك المعاملة في يوم من الأيام. وثمة روايات حول موقف الاستاذ عبد العزيز الدوري من زميله عبد الجبار عبد الله، وقد غدا الدوري رئيسا للجامعة بعد اعتقال عبد الجبار عبد الله.. دعوني أوضّح الروايات الثلاث التالية:

الرواية الاولى
لقد سعى كما يشهد بعض من شهد تلك الأحداث، ان العديد من الأساتذة في جامعة بغداد قد سعوا لمساعدة عبد الجبار عبد الله، وعلى رأسهم الدكتور عبد العزيز الدوري الذي نصّب رئيسا لجامعة بغداد بدلا من الدكتور عبد الجبار عبد الله ! اذ نرجع أيضا إلى مقال الدكتور رشيد الخيون الذي جاء فيه قوله: quot; لم يترك الدوري زميله وصديقه العالم عبد الجبار عبد الله يهان وربما يصفى جسدياً، فقيل إنه سعى في إطلاق سراحه بالتنسيق مع وزير التربية أو المعارف آنذاك أحمد عبد الستار الجواري. سألت أحد المعتقلين مع عبد الجبار عبد الله حول ما حدث له، قال: أهانوه وكانوا يبصقون على وجهه، ويوماً نودي عليه لمقابلة شخص ما، فعاد بعد مغادرة ذلك الشخص مهاناً، فقلنا له: مَنْ رأيت قال: صديقي الدكتور عبد العزيز الدوري، وأنا لا أعرف منْ يكون الدوري، قلت له، هو الذي أمر بإهانتك، وعندها أصر عبد الجبار على مساعدة الدوري له، قائلاً: لا، الدوري صديقي وقدم لمساعدتيquot;، وفعلاً كانت النتيجة أن عبد الجبار أُطلق سراحه بمساعدة الدوري، والأخير كما نعلم وإن كان قومياً لكنه لم يكن في يوم من الأيام حزبياً. غير أن هذا التفاضل بين عالمين يخبر عن زمن جميل، يحترم العلم والعلماء إذا ما قيس ذلك بتربع شخص مثل سمير الشيخلي، ليس رئيساً لجامعة بغداد، وإنما وزيراً للتعليم العالي وقس على هذا. وإن أُقيل عبد العزيز الدوري من رئاسة الجامعة من قبل عبد السلام عارف، أعاده عبد الرحمن عارف ليفصل منه بعد انقلاب 17 تموز 1968، ويعتقل لمدة عام، ثم تضطره الظروف للهجرة quot; (انتهى النص).

الرواية الثانية
وحول هذه المسألة المهمة، يكتب لي الأستاذ عربي الخميسي قائلا: quot; أما عن اعتقاله فلم يشفع له الدوري .. بل كانت هناك ثمة تدخلات أجنبية وأوساط علميه من كل صوب وممارسات ضغوط دول منها أميركا وجامعاتها خاصة معهد (ايم آي تي) وانكلترا خاصة مؤسسة اللورد برنارد رسل وجامعة اوكسفورد وجامعة كيمبرج والتجمع للدفاع عن المعتقلين الذي يترأسه الشاعر محمد مهدي الجواهري في براغ بجيكوسلوفاكيا والمؤسف انه تعرض للاهانة والشتم على أيدي الحرس القومي وكذلك في سجن رقم واحد العسكري..quot; (انتهى النص).

الرواية الثالثة
حدثني بها ولده الأصغر الصديق الدكتور ثابت عبد الله قائلا: quot; عندما كان عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد، فانه قد تدّخل لدى الزعيم عبد الكريم قاسم لإطلاق سراح عبد العزيز الدوري الذي كان قد اعتقل في الجامعة على عهد عبد الكريم قاسم، وكان عبد الجبار عبد الله قد رفض تدّخل الحكومة في حرم الجامعة، فللجامعة حرمتها. وكان عبد الجبار يعتقد ان له دالة على الدوري، فلما اعتقل هو نفسه بعد انقلاب البعثيين في 8 شباط / فبراير 1963، طلب من زوجته، وهو في المعتقل أن تذهب إلى الدوري كي يساعده في محنته.. فذهبت إليه وذكرته بمعروف اسداه له زميله، فأجابها الدوري انه لا يستطيع فعل شيء، فرجعت خائبة متألمة من جوابه واعتذاره ! ولكن يستطرد ولده الدكتور ثابت قائلا: إن صديقا لوالده عبد الجبار اسمه نعمان الجادر وهو أستاذ رياضيات صابئي حدثّه بأن الدكتور عبد الجبار قال له بأن الدكتور الدوري عندما طلبت المحكمة شهادته على زميله عبد الجبار الذي كان قد وجهت إليه تهما عدة منها انه كان شيوعيا أو متعاطف مع الشيوعيين.. فان الدوري أجاب بأن عبد الجبار عبد الله برئ من كلّ هذه التهم، وانه لم يكن مرتبطا بأي حزب سياسي، ولم يكن متعاطفا مع اية جهة، أو منتميا إلى أي اتجاه.. يقول الدكتور ثابت بأن الدوري لم يشهد ضد والدي. وان عبد الجبار قد حفظ للدوري جميله.

ماذا نرى؟
إنني أكاد اجزم أن عبد الجبار عبد الله لم يكن منتميا أبدا إلى أي حزب سياسي أو كتلة سياسية، لكنه كان ديمقراطي النزعة، وتقدمي التفكير، ويميل إلى اليسار فكريا، وله استنارته التي يعتز بها غاية الاعتزاز، ويعشق العراق إلى ابعد الحدود، ويكمن هاجسه في خدمة وطنه ليس إلا.. كان مؤمناً بالحرية، ويحترم الآخرين، وكان جريئا وصريحا في قول كلمة الحق، فتعرض إلى الأذى، والملاحقة.. ولما أفرج عنه واخلي سبيله، قرر مغادرة العراق كي يعود مجددا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكان قد تجاوز الخمسين من العمر، وبقي يحمل العراق في أعماقه، ويحنّ إليه بالرغم من كل ما تعّرض له فيه، إذ يحدثّني بعض الأصدقاء الذين رافقوه رحلته الأخيرة وسنوات اغترابه القاسية، انه كان دائم الحنين إلى العراق، وكان يتتبع أخبار العراق.. ولكن لم تفارقه أبدا الغصّات التي تعرّض لها، وخصوصا الأيام الصعبة عندما تلقّى الاهانة وأسيئ إليه في الزنزانة أو خارجها وهو العالم والأكاديمي العراقي الشهير. إن علماء وأساتذة لا حصر لهم في العراق تعرضوا ويتعرضّون حتى اليوم للمزيد من الشتائم والاهانات لأسباب فكرية وسياسية، ومن قبل أناس عديمي النظر والتفكير والأخلاق.. أناس متعصبون أو جوقات من المجانين الذين يخلطون دوما أهواء السياسة بالعلم، ولا يميزّون الناس ولا يقدرون العلماء حق قدرهم. إن علّة هؤلاء الافاكين تكمن بما يكبتونه من أحقاد وكراهية، ويترجمون ذلك إلى هوس حقيقي والى سلوك همجي ضد كل المبدعين العراقيين في أزمان وعهود مختلفة.

الرحيل: النهاية المؤلمة
اشتغل في الولايات المتحدة الأميركية قرابة ست سنوات، إذ درّس في جامعات ومعاهد أمريكية مرموقة، منها جامعة نيويورك وجامعة بوسطن ومعهد أبحاث الفضاء في ألباني (نيويورك)، وفي كولورادو (بودلر). توفي فيها يوم 9 تموز / يوليو 1969 وهو في الثامنة والخمسين من العمر.. وكان رحيله فاجعة أليمة ألمّت بعائلته وأصدقائه وزملائه وكل معارفه وطلبته، ونقل جثمانه إلى العراق ليدفن في ترابه، ليترك من ورائه سيرة واحد من المع علماء العراق ومبدعيه في القرن العشرين، ومن أولئك الذين دفعوا ثمنا باهظا جراء وطنيتهم وتقدميتهم ونظافتهم وذكائهم.. واذكر أن بعض المثقفين العراقيين اختلفوا حول مقترح تسمية يوم العلم العراقي ليكون باسم الدكتور عبد الجبار عبد الله ليحتفل بذلك اليوم سنويا في العراق، وكانت ردود البعض غير مقبولة في حينه.. إذ لم يزل المثقفون العراقيون منقسمون في ما بينهم حول كل الموضوعات التي تخص العراق والعراقيين !
عن: كتاب الدكتور سيار الجميل: زعماء ومثقفون: ذاكرة مؤرخ