ثناء علي
امتلأت صفحات “فايسبوك”، بصور نشطاء يحملون أوراقاً، كتب كل واحد منهم على ورقته اسمه، اسم أمه، مهنته، وتهمته. والتهمة واحدة “أريد وطناً”. تقول انتصار جبار إحدى الناشطات على “فايسبوك”: “أطلقنا هذه الحملة تحدياً للفكر الحكومي الأرعن والمستخف بحاجة المواطن ومعاناته التي دفعته إلى إشعال هذه الثورة. هذه الحملة نؤكد من خلالها أنه إذا كان الوطن هو تهمتنا فجميعنا متهمون وجميعنا مستمرون.”
في بغداد، يتبادل إياد ورحومي الجلوس على الأرجوحة التي صنعاها من إطار إحدى العجلات تحت جسر محمد القاسم المُتهالك، والذي سبق أن أغلقته أمانة بغداد عشرات المرّات لصيانته. لم يمنع المطر الشابين الذين لم يبلغا الثامنة عشرة من التأرجح واللعب فوق الخراب المتبقي من الإطارات المحترقة، التي أشعلها متظاهرون لإغلاق هذا الطريق الذي يعدّ من أهم الطرق الخدمية في بغداد، فضلاً عن الخراب الذي تركته عجلات التُك تُك التي أحرقتها قبل قوات مكافحة الشغب.
رحومي ابن مدينة الصدر، الذي تخلى عن دراسته وأصبح عامل بناء يومي، يروي لـ”الاحتجاج” سبب مشاركته في التظاهرات العراقية وبقائه في الشارع حتى اللحظة، على رغم المطر، والرصاص الحي وقنابل الغاز مسيل الدموع التي تحولت الى قنابل قاتلة. يقول: “لا خيار أمامنا بعد اليوم، الموت أو الكرامة، لقد انتُهكنا علناً، فمع هطول الأمطار غرقت الشوارع، وغرق بيتي في مدينة الصدر. الآن لا أستطيع الدخول إليه، فكل ما فيه أصبح غير صالح. سأنتظر حتى تجف أرضه وأعود أنا وأسرتي إليه”…رحومي هو المعيل الوحيد لعائلته المكونة من أمه وجدته و7 شقيقات، وذلك بعد وفاة والده أثناء معارك تحرير الموصل من سيطرة داعش. “تركت الدراسة وأعمل في البناء لكسب قوت يومي. هذا كله وما زلنا نُسأَل لماذا نتظاهر، وتقتلنا حكومتنا التي تدعي الديموقراطية، لأننا نطالب بحقوقنا البسيطة”، يقول رحومي. ليست الغيوم وحدها من يحاصر سماء العاصمة بغداد منذ يوم 21 كانون الثاني ، فالدخان يملأ المكان، إنه دخان الإطارات التي يحرقها المتظاهرون محاولين قطع الطرق الرئيسة وعزل العاصمة، ومنع الموظفين من الذهاب إلى الدوائر الرسمية وغير الرسمية.
مهيمن أحد المتظاهرين الذين عزموا على الوقوف عند جسر ملعب الشعب، يقول لـ”الاحتجاج”: “سنواصل محاولاتنا السلمية لتصعيد التظاهرات، وسنقطع الطرق باستمرار حتى السيطرة تماماً على الوضع. صباح يوم الثلاثاء (21 كانون الثاني) أقفلنا جسر ملعب الشعب، لكن واجهونا برصاص حي من قبل الشرطة الاتحادية وقوات مكافحة الشغب، فأجبرنا على التراجع، لكننا لن نستسلم بل سنعيد الكرة، وقد نلجأ إلى لحم أبواب الدوائر الحكومية لنمنع الموظفين من الدخول.”
لم تكُن قوات مكافحة الشغب وحدها من كافح التظاهرة وحاول قمعها. يفيد مصدر من وزارة الداخلية العراقية، رفض الكشف عن اسمه، لـ”الاحتجاج” بأن “هناك أوامر صدرت لوزارتي الدفاع والداخلية بقمع التظاهرات، ورمي المتظاهرين بالرصاص الحي، لهذا بعد انتهاء المهلة تقوم قوات من الشرطة الاتحادية بمواجهة المتظاهرين الموجودين خارج ساحة التحرير بالرصاص الحي. وفقاً للأوامر كل من يكون موجوداً عند ساحة الخلاني، وأبي نؤاس، وجسر السنك، ومحمد القاسم، وكل من يحاول قطع الطرق، ستقوم الشرطة وقوات مكافحة الشغب بإطلاق الرصاص عليه.” يؤكد المصدر أنهم “ ينتشرون حالياً في ساحة الطيران، علماً أن معظم الشهداء الذين سقطوا في تظاهرات العاصمة بغداد هم ضحايا القنص، الذي كان يصوب مباشرةً إلى الرؤوس.”
وتتحدث المعلومات عن تنسيق بين قوات مكافحة الشغب، ووزارتي الدفاع والداخلية، والجماعات المسلحة، لإسكات أطباء مستشفى الجملة العصبية لعدم الكشف عن الانتهاكات التي تحصل. ممرضٌ في المستشفى رفض الكشف عن اسمه، يقول:” لو تم ذكر اسمي، سينتهي أمري” مضيفاً، “ببساطة دخل عناصر قوات مكافحة الشغب مساء يوم 20 كانون الثاني، واعتقلوا أكثر من 10 مصابين من المستشفى، ما لا يمكن تحمله أنهم لم يراعوا مرحلة الخطر التي وصل إليها بعض المصابين، إذ قاموا بجرّهم خارجاً ثم إلى سيارات حكومية مصفحة، على رغم محاولة قيمين على المستشفى التدخل، إلا أننا هُدِّدنا بالرصاص .”
يؤكد الممرض أن “تسجيلات الكاميرا الخاصة بالمستشفى، مسحتها القوات المسلحة. وفي صباح اليوم التالي، قام أشخاص من المستشفى، ينتمون إلى جهات من الجماعات المسلحة، بتهديدنا في حال تحدثنا عمّا حصل في تلك الليلة.”
مختطفون وضحايا
نجح هيثم ومن معه بقطع طريق محمد القاسم، حاملين العلم العراقي. فاضل أحد المتظاهرين الذين شاركوا في قطع طريق محمد القاسم يوم الثلاثاء 21 كانون الثاني، يقول” :لقد نجحنا بقطع هذا الطريق المهم، وكنا نحمل الأعلام، فيما كانت قوات مكافحة الشغب تحمل شتى الأسلحة، فواجهتنا بالرصاص الحي وقنابل الغاز مسيل الدموع ظهر ذلك اليوم، ورحل هيثم ضحية المواجهة، بعدما أصيب بطلقة في الجهة اليسرى من صدره، كما أصيب بأربع طلقات متفرقة من جسده”.
يؤكد فاضل،” لم نكن نريد قطع هذه الطرق لتعطيل أرزاق الناس، كل ما قمنا به هو محاولة لمنع الموظفين من الذهاب إلى عملهم لأيام، من أجل تغيير هذا الواقع المرير الذي نعيشه.”
لم يرحل هيثم وحده خلال هذه المواجهات، إذ تصاعد عدد القتلى حتى مساء يوم الاربعاء 22 كانون الثاني، إلى 16 قتيلاً وأكثر من 40 جريحاً في بغداد، منهم أيمن الراجي ويوسف ستار وغيرهما الذين لم يتجاوزوا العشرين. لم تشهد بغداد أحداث قتل فقط، بل ارتفعت حصيلة المعتقلين، في صبيحة يوم الثلاثاء 21 كانون الثاني، إذ توجهت قوات مسلحة إلى إحدى المفارز الطبية في منطقة أبي نؤاس، واعتقلت أحد المسعفين هناك هو أيد محمد. يقول أحد زملاء أيد: “أكد لنا المسلحون أنهم جهة أمنية وعاملونا بعنف وهددوا من يحاول منا التدخل بإطلاق النار عليه، قاموا بجرّه إلى سيارتهم خارج المفرزة ولا نعرف إلى أين اصطحبوه.”
بعد اعتقال أيد، انتشرت أنباء عن اختفاء الناشط مخلد شغتين، من دون معرفة ما حل به. غادر مخلد ساحات التظاهر يوم الإثنين 20 كانون الثاني عند السابعة ليلاً، إلا أنه لم يصل إلى منزله، وأغلق هاتفه النقال ولم يعرف مصيره حتى الآن.