حكاية شهيد..طه طلال، وشهادة قلب أبيض أبى أن يتقاعس عن مقعده في التحرير!

حكاية شهيد..طه طلال، وشهادة قلب أبيض أبى أن يتقاعس عن مقعده في التحرير!

 ماس القيسي
طائر هو، كالفينيق في طلته، كالعنقاء في شموخه، يحترق ليصبح رماداً يشعل فتيل ثورة رفاقه طلاب الحرية والوطن، كلما ركنت الى الركود بفعل أي ريح عاتية قد تهب على حين غرة لتخمد حراكنا.

طه طلال حاتم، من مواليد عام 1994، مقيم في حي الاعظمية في منطقة راغبة خاتون في بغداد، طالب جامعي متخرج حديثاً من الإدارة والاقتصاد، قسم المحاسبة في كلية الاسراء، شغوف في ممارسة التمارين الرياضية وبناء الجسد، طموح ونشيط ومسالم، محب للحياة بكل تفاصيلها.
"منذ زمن وتحديداً بعد مرور أسبوع من استشهاده، وأنا أريد أن يعلم العالم قصة صديقي طه وما حصل معه، لأجل أن يدركوا شعور الفقد لدى عائلته واحبته ممن خسروا إنساناً جميلاً بعمر الزهور، وكل شهيد عراقي آخر لم يسمع العالم عنه ولم يطالب أي كان بحقوقه". ويعقب عبد الملك (صديق الشهيد) قائلاً:" بدأت معرفتي به في فترة دراستي الجامعية، كانت صداقتنا جميلة جداً تعدو كونها زمالة دراسية في مرحلة اكاديمية، كنا نحن الثلاث أنا وطه وعمر رفقاء في كل شيء حتى أصبحنا محط أنظار وحسد الزملاء إذ كنا نمثل لهم رمزاً للصداقة الجميلة الحقيقية".
مختلف في زمن مليء بالكذب والنفاق فقد كان طه" الصديق الأمثل الذي يحظى بمحبة الزملاء، حتى أنه لم يكن لديه أي عداوة وإن حصل سوء تفاهم مع أحدهم يبادر دوما للصلح" وهذا فعلاً ما تم قبل أيام من إصابته فقد" تواصل طه مع زميله تحسين الذي كان على خصام معه وبادر في إعادة المياه لمجاريها، حتى تجاوب معه قبل إصابته بيوم!"، وكأنه يشعر سلفاً أنه سيغادر الحياة فأبى أن يرحل عنها تاركاً فيها أي شوائب تذكر.
التحق طه ليواكب إخوته في ثورة تشرين منذ اليوم الأول، ثم غاب عنها لعدم إيمانه في استمراريتها في بادئ الأمر، وعاد في يوم 26 أكتوبر بروح يغمرها اليقين بثورة قدمت شهداء لابد لها أن تنتصر، وبهذا يستأنف عبد الملك قائلاً:" في يوم 27 كنا نشارك من خلال دعمنا المعنوي والوجودي وكل ما باستطاعتنا أن نقدم بكل سلمية كباقي إخوتنا في ساحات التظاهر، تحاورنا مراراً في هذا الشأن، فهم إخوتنا وغير مقبول أن نتقاعس، فخرجنا في المرة الثالثة بتاريخ 30 أكتوبر، حين كانت المظاهرة حاشدة، حيث سرنا على الأقدام حتى وصلنا الى نصب الحرية، كان هناك من يقدم الطعام، فأكلنا ثم توجهنا الى جسر الجمهورية، بالكاد نستطيع أن نضع قدماً وسط الحشود، كانت الساعة حينها العاشرة صباحاً والأمور مستتبة، حتى انطلقت اول قنبلة مسيلة للدموع قرب الجسر، اسقطت الناس أرضاً في حدود الساعة الحادية عشرة، ثم تبعتها الأخرى سقطت الى جانب طه إذ كنت آنذاك بعيداً عنه بمسافة العشرة أمتار حين سمعت اطلاق القنابل ورأيت المشهد الذي تسارع أمامي والكل يتفرق، ركضت بعيداً من خوفي وعدت الى النصب و تعرضت للضرب نتيجة زخم المتدافعين".
أصيب طه حين لامست شظية من القنبلة رقبته، واستقرت في قصبة حنجرته الهوائية، كان لا يزال على قيد الحياة ونقل على أثرها بواسطة عربة التكك الى سيارة أسعاف، التي نقلته الى مشفى شيخ بن زايد، حيث رٌفض استقباله لحالته الحرجة ومن ثم الى مشفى ابن النفيس اذ" غاب طه عن الأنظار في التحرير وأنا أصبت بالهستيريا، وشبكة الانترنت غير متوفرة لاتصل به، أبحث عنه دون جدوى حتى أرسلوني لساحة الطيران لأستطيع الاتصال فوجدت إشعار برسالة من أخيه أحمد، يخبرني باكياً بأنه يرقد في المشفى".
" دخلت المشفى، ورأيت ذاك المشهد الذي لا يمكن أن يفارق مخيلتي، ذاك الشاب العنيد الشغوف يرقد الآن في غرفة العمليات"، استرجع عبد الملك ذكرياته وتفاصيل مسيرة حياته برفقة طه" لم اتمالك نفسي حينها وبكيت، أخبروني بأنه منذ ساعتين على هذا الحال ولا أحد يدري الى ما سيؤول وضعه الصحي، فقد اتلفت الإصابة حباله الصوتية، منعوني من رؤيته لخطورة حالته رغم رجائي حتى استطعت أن المحه عبر نافذة تطل على غرفة الإنعاش، حيث يرقد"، تمنى لو لم يحظ بتلك الفرصة الأليمة بقوله:" ليتني لم أر صديقي الأنيق بهذا المشهد".
"طه ابن الاعظمية، برفقة ابن الناصرية وثالث من مدينة الصدر"، مشهد إنساني داخل غرفة الإنعاش حيث قد يكون المثوى الأخير لأرواح طاهرة، كما يقول عبد الملك: " ابن الناصرية تعافى من إصابته وابن مدينة الصدر استشهد بعد يومين، أما طه لسوء حظه كان بحالة خطرة، فقد التهمت جسده تلك المواد الكيميائية الحارقة".
استيقظ طه بعد مرور يومين من اجراء العملية، ابتسم لرؤية عبد الملك بخير وقال موصياً إياه " إياك أن تذهب للتحرير مرة أخرى".، ويضيف عبد الملك:" بعد رحيله لم أستطع أن أزور التحرير فقد ترك طه بداخلي فراغ كبير، لا أستطيع مجابهة هذا الألم بمفردي بعد أن اتفقنا أن نمضي في الحياة سوياً". مرّت تسع أيام والشباب من ضحايا الطلق والقنص والقنابل يرحلون تباعاً، حتى أتى دور طه اليتيم، الذي فقد أمه في أحد التفجيرات في سوق شعبي، ليرحل هو الآخر" إثر انفجار وريد في حنجرته فاقداً الدم دون توفر متبرع يحمل زمرة دمه، تفشي المواد الكيميائية أيضاً دون إيجاد حد لها من قبل الكادر الطبي! تسبب في القضاء عليه، حتى وجدوا متبرعاً، حسب قولهم إن مرت أربع ساعات دون مضاعفات سيعيش، وقد مرت بالفعل حينها واستقرت حالته كنا بجانبه نقوم على رعايته في اليوم السابع، واليوم التالي عدت الى المنزل لارتاح قليلاً ونمت حتى أيقظني صديقنا عمر في الثامنة صباح اليوم التاسع بتاريخ 8/11 يخبرني باستشهاده بسبب انفجار وريد آخر حال دون انقاذه".
"كالطفل ملاكاً يرقد في الثلاجة" هكذا لمحته لأخر مرة في حياتي"، حتى أنه لم يتوقف عن نزف الدماء وأنا أغسل جسده الطاهر، ثم شاركت في دفنه"، رحل وترك رفيقه بمفرده يعتزل الحياة في منزله كارهاً كل شيء من بعده.