حوارٌ بين علي الوردي وجمال حمدان

حوارٌ بين علي الوردي وجمال حمدان

علي حاكم صالح
على الرغم من الاختلاف البيّن منهجاً وموضوعاً بين عمل الدكتور علي الوردي الفكري في كتبه كافة وعمل الدكتور جمال حمدان في كتابه العمدة "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، فموضوع الأول هو الشخصية العراقية، لا شخصية العراق، والثاني موضوعه شخصية مصر، لا الشخصية المصرية، الأول اجتماعي يتخذ من التاريخ والظواهر الاجتماعية، وحتى الحكايات الشعبية،

الراسية أم العابرة، مادته، والثاني جغرافي، ولكن جغرافيته "لا تقف عند حدود وصف المكان بل تتعداه إلى فلسفة المكان"(1) (ج1، 12)، على الرغم من ذلك فإن الرجلين يلتقيان، حياتياً وفكرياً، في أشياء أساسية كثيرة، وهذه هي موضوع هذا المقال. يتوقف قطار جمال حمدان في رحلته الطويلة لفترة ليست قليلة في محطة علي الوردي. ويشتركان في مسارات، وتجمعهما هموم.
والهمّ الوطني المتأسس علمياً لا آيديولوجياً صاخباً يأتي في مقدمة ما يشغل اهتمامهما المعرفي والفكري: إنهما يجليان، كل على طريقته الخاصة، خصوصية وطنيهما ضمن حيّز أوسع يشملهما معاً، أعني امتدادهما العربي والإنساني. وربما بسبب ذلك، فضلاً عمّا اتصفا به من التزام علمي أخلاقي، تشابه الرجلان من جهة ما لقياه من إهمال متعمد من طرف المؤسسة الثقافية السياسية الرسمية. لأنهما لم ينسجما مع هذه المؤسسة أو ينافقاها فيما تريد، وتفكر، وتخطط (هذا إن كانت تفكر وتخطط فعلاً).
يشدني "شيطان المقارنة" (حسب عبارة كيليطو) إلى مواجهة الرجلين وجهاً لوجه في المحطة التي التقيا فيها، وعقد حوار أديره أنا ولكن محتفظاً لهما بصوتيهما. هو حوار بين اثنين لا يخلو أحياناً قليلة من مداخلاتي.
العراق، كما يقول الدكتور حمدان، أقرب الدول العربية "شبهاً بمصر حتى ليعدا بمثابة نظائر جغرافية" (ج4، ص 642)، كما أنهما أول بلدين شهدا مولد الحضارة كما يقول الوردي، وكما يعرف الجميع.
مات علي الوردي (1913-1995)، أكبر عالم اجتماع في العراق، ولم يسر خلف جنازته "عدا القلة"، "فلم يكن للخصوم أن ينحنوا تحية واحتراماً لمفكر كبير في بلاد غابت عنها تقاليد الحوار، وبات من النادر احترام الرأي الآخر، وتحولت فيها الخلافات الفكرية إلى حافات سكاكين تقسم الناس، حتى النخبة منهم، فلم يعودوا قادرين على الإفصاح عن احترامهم لمفكرين لم يتفقوا مع أفكارهم ودعواتهم. أما محبوا الوردي وتلامذته، فعدا القلة ممن شارك في وداعه، فلاشك أن الخوف من الإفصاح عن تابعيتهم الفكرية والعاطفية له قد شلت أقدامهم عن الخروج إلى الشارع في تظاهرة الوداع التي لن تعيد نفسها مرة أخرى"(2). ومات جمال حمدان (1928-1993)، في عزلته الطوعية، متفرغاً لبحثه العلمي، وعن موته كما يقول د. خالد منتصر، اكتفت إحدى الجرائد بهذا العنوان البائس: ""انفجار أنبوبة بوتاجاز في دكتور جغرافيا".
ليس أمراً جديداً، والغريب أنه لم يعد غريباً، أن يُنبذ المبدعون الحقيقيون، مادام مناخ الحياة الثقافية والفكرية هو مناخ الرعاة والمرعيين، والحظوة في بلاط الأمير ومؤسساته، لا تكون إلاّ لمن ينافقها، ويدغدغ مشاعر العوام. وكلا الرجلين لم يفعل هذا ولا ذاك، إنما تركا كتابات ستظل حية، ويموت الجميع.
لم تكن رحلتي مع "شخصية مصر"، في بعض مفاصلها، يسيرة، ولكنها بالتأكيد مفيدة وشيّقة؛ لأن جمال حمدان يتجول ويجول بين جميع العلوم، فيتحدث عن صخور مصر بنفس الحميمية (العلمية والشخصية سواء بسواء) التي يتحدث فيها عن النيل، عن تاريخ مصر القديم والحديث، عن الفلاح المصري، عن اقتصاد مصر، وزراعتها، عن صحراواتها، ونيلها، عن آلامها وآمالها، عن أمس مصر، وما قبله، وعن يومها، والقابل من الأيام. ولكنه كنظيره العراقي يتريث قليلاً، ولا يفصح كثيراً في حديثه عن اليوم، يومه.
كتب علي الوردي مرة: "لي كتب قد أعددتها للطبع منذ سنوات. وقد أعلنت عنها ذات مرة إعلاناً ساخراً فقلت: إنها ستصدر بعد موت المؤلف إن شاء الله. وكان سبب هذا الإعلان الساخر أني كنت لا أتوقع أن تحدث الثورة [ثورة 14 تموز 1958] عندنا في وقت قريب. والآن وقد حدثت الثورة بأسرع مما كنت اتوقع، فهل تراني قادراً على إخراج تلك الكتب العتيدة؟ كلا!"(3). وهي لم تصدر حتى الآن، بل إن الحال قاد الوردي حدّ أن كتب "كلمة وداع" في نهاية كتابه الأحلام بين العلم والعقيدة، يقول فيها: "لابد لي من كلمة وداع أودع بها القارئ في خاتمة كتابي هذا الذي هو فيما أعتقد آخر كتاب أخرجه إلى الناس. ويخيّل لي أن الكثيرين من القراء سوف لا يأسفون لهذا الوداع، ولعل البعض منهم سيفرح به"(4).
وعلى النحو نفسه بالضبط فعل جمال حمدان. فقبل أن ينهي سِفره العظيم بالباب الحادي عشر، المعنون "مصر والعرب"، كتب تحت عنوان "توضيح لابد منه للقارئ"، يقول فيه: "إلى أن يزول وجه مصر القبيح نهائياً، وكذلك وجه العرب الكالح القمئ المتنطع أيضاً، فإن من الواضح تماماً في الوقت الحالي الردئ الساقط استحالة كتابة هذا الباب كما ينبغي وكما كان في خطة هذا العمل الكبير. ليس ذلك ـ ليثق القارئ ـ حرصاً على سلامتنا أو حتى حياتنا، ولكن فقط حرصاً على سلامة وصول هذا الكتاب إليه ـ وكل لبيب بالإشارة يفهم... ورغم أن المادة الأولية والأفكار الأساسية والتخطيط العريض لهذه الفصول تم إعدادها بالفعل منذ أمد ليس بالقصير، إلا أن المؤلف بكل الأسف والأسى يستأذن في أن يقدم اعتذاره لقارئه عن عدم استحالة الكتابة والنشر في ظل الظروف الراهنة القهرية القاهرة التي يعرف، إذ لن يصل إليه حرف منها بحال من الأحوال". (،ج4، 630).
لم يكتب الوردي كلمة الوداع اعتباطاً، فلقد جاءت متوافقة مع تغير "ذوق القارئ العراقي"، حسب تعبيره. يكتب: "ولابد لي من أن أعترف هنا فأقول بأنه كتاب إن كان يصلح لعهد مضى، فهو لا يصلح للعهد الثوري الجديد، أقول هذا من باب الاعتراف بالواقع وإن كان مرّاً. وهو اعتراف لابد من أن أبوح به لكي يكون القارئ على بصيرة من أمره حين يقرأ هذا الكتاب أو أي كتاب آخر من كتبي السابقة. هناك حقيقة لا يجوز لي أن أتناساها هي أن ذوق القارئ العراقي قد تغير تغيراً كبيراً إثر قيام الثورة. فبعدما كان القارئ يتلذذ ما أكتب ويكتب أمثالي من مواضيع اجتماعية ونفسية لا تمس السياسة إلاّ مساً خفيفاً، أصبح اليوم يريد من الكاتب أن يكتب في صميم السياسة وأن يعلن رأيه جهراً فيما هو حق أو باطل من المبادئ التي يتنازع حولها الناس... فالذي لا شك فيه أن ثورة 14 تموز كانت ثورة جذرية كبرى هزت عقول الناس وقلبت مفاهيمهم. وأعتقد أن عهد الثورة يحتاج إلى كتاب وأدباء من نوع جديد يختلف عن ذلك النوع من الأدباء والكتاب الذين اعتاد الناس عليهم في عهد مضى"(5).
الوردي يودع القارئ لأن ذوق هذا القارئ نفسه قد تغير، وتغيّرُ الذوق عندنا يعني إصدار أحكام وتنفيذها على وجه السرعة. والأحكام في بلادنا حاسمة ونهائية. بل إن الوردي يسارع، في موضع آخر، إلى إزالة أي سوء فهم، أو لبس، قد يترتب عليه أذى وضرر عظيمان، يكتب: "أرجو أن لا يفهم القارئ من هذا أني أقصد بهذا شباب حزب معين من أحزابنا المتصارعة في هذه الأيام. فالذي ذكرته يصدق على كثير من الشبان المتحمسين من كل حزب وفي كل بلد، لاسيما في هذا البلد الأمين!"(6)، وتبدو ضرورة هذا التوضيح جلية في خشيته من أن يحسب على طرف ما، أو جهة ما، فيناله القسط المستحق الذي يناله كل إنسان يرى خلاف ما يراه السائدون في هذا البلد الأمين حقاً! يكتب أيضاً: "لو أتيح لأي حزب أن ينتصر في فترة من فترات الزمن لفعل شبانه مثلما فعل شبان حزب آخر... وها أنذا الآن أسمع عن سلسلة من الاعتداءات الصارخة يقوم بها عصابات من الشبان في بعض مناطق بغداد، إذ هم يركبون الدراجات يبحثون بها عن صيد لهم في زوايا الشوارع لكي يشبعوه ضرباً وتنكيلاً. ولو أتيحت لهؤلاء فرصة كافية لما ترددوا عن القيام بأبشع الأعمال والفظائع"(7).
أما جمال حمدان، فإنه يعتذر للقارئ، لا خوفاً منه، إنما خوفاً من السلطة. ولكن خوف علي الوردي هو أيضاً خوف من السلطة. بطبيعة الحال لم تكن السلطة يوماً راضية عن علي الوردي، ولا هو كان منسجماً معها، ولكنها اتخذت بعد العام 1958 شكلاً آخر. ففي العهد الملكي لم تكن السلطة تعتمد على غير مؤسساتها البوليسية والحقوقية والسياسية في تدبير وتسيير دفة الحكم وفرض سلطاتها، ولكنها لم تحتكم يوماً إلى أتباع، أو أنصار، وغوغاء. فهذه الظاهرة الأخيرة لم تنمو وتتضخم إلاّ في العهد الجمهوري. ويبدو أن نظام الحكم في بلداننا الذي يسمى جمهورياً، لا علاقة له بهذا المفهوم السياسي إلاّ من جهة تأليب جمهور من العوام لفرض سلطة سياسية، ومن ثم حشده، واستغلاله لمآربها ضد جمهور آخر. فالأحزاب التي تسمّي نفسها جماهيرية، أو شعبية، إنما كانت تجيّش هذه الجموع، وتستغلها في أوقات الصراعات، والمنازعات التي يكون الميدان العام ساحتها. يكتب علي الوردي: "لم تنصب المقاصل في ثورتنا كما نصبت في الثورة الفرنسية، إنما استخدمت فيها الحبال والخناجر والهراوات والقناني. ولو استمرت فترة الحماس في ثورتنا مدة أطول لربما شهدنا فيها أشياء أخرى لا يعلمها إلاّ الله."(8).
وخلف الاختلاف الظاهري بين تصريح الرجلين، فعلي الوردي يخشى الجمهور لأن الجمهور يريد كتابة تمس السياسة، حسب تعبيره، في حين يخشى حمدان السلطة السياسية، لأنها لا تريد لأحد أن يخوض في شؤونها، أقول خلف هذا الاختلاف الظاهر وحدة عميقة. كان علي الوردي قد أعلن عن وداعه ذاك في بدايات ثورة 14 تموز في العام 1958، حيث كان الشارع صاخباً، تتوزعه انتماءات آيديولوجية مختلفة وقاتلة، لذلك صار مطلوباً من الكاتب الذي يتصدى للشأن الاجتماعي أن يتحدث في الشأن السياسي، بمعنى أن يفصح عن انتماءاته الآيديولوجية. لأن الخوض في الشأن السياسي، في أيام التحولات الفائرة، لابد، كما يريد الجمهور، أن يأخذ صيغة موقف آيديولوجي ما؛ "وأن يعلن رأيه جهراً فيما هو حق أو باطل" حسب تعبير الوردي نفسه. في حين أن جمال حمدان كتب توضيحه بعد سنوات طويلة على استتباب الوضع السياسي لمصلحة سلطة سياسية واحدة وحيدة، حرفت توجهاتها الأصلية نحو اتجاه معاكس تماماً، ففقدت جمهورها الذي يفترضه حمدان، ويوجه إليه كتابه. في حالة الوردي كان الحديث في السياسة يعني، إذّاك، الحديث المتحزب، أما في حالة حمدان فكان الحديث في السياسة يعني نقد نظام السلطة السياسية القائمة فعلياً، ونقد توجهاتها التي تشيع في نفسه الألم والمرارة.
كان علي الوردي يصف في كتابه "وعاظ السلاطين"، الصادر في فترة الحكم الملكي، القيّمين على دار الإذاعة العراقية بـ"جلاوزة الإذاعة"، ويضيف هامشاً إلى عبارته هذه يكتب فيه: "حقّ على المذيع آنذاك أن ينادي: هنا بلد الجلاوزة. هنا بغداد"(9). وما كان له أبداً أن يجرؤ على هذا القول في كل الفترة التي تلت العام 1958. بل ما كان ليجرؤ حتى على أن يقول ما قاله الدكتور جمال حمدان في تبرير عدم نشره الباب الأخير من كتابه حينما يوجه كلامه مباشرة إلى القارئ.
ولكن الجمهور الذي يخشاه علي الوردي لا يعبر دائماً عن توجهات السلطة السياسية القائمة، إنما يعبر عن سلطته الخاصة، فتحت فقرة بعنوان "أنا والغوغاء"، يكتب الوردي: "لقد خبرتُ خطر الغوغاء وأدركت مبلغ دناءتهم عندما أخرجت كتاب وعاظ السلاطين عام 1954. كنت أبتغي... تنقية الدين مما لحق به من أدران سلطانية آثمة... فهاج الغوغاء على كاتب هذه السطور هياجاً عجيباً، وهددوه بالقتل غير مرة وثلبوه ثلباً قبيحاً. ولم يتردد بعضهم عن رؤيته في أحلامهم يساق إلى نار جهنم مصحوباً بلعنة الله وملائكته أجمعين... ومن العجيب حقاً أن أرى أفراداً من أولئك الغوغاء الذين كانوا يرومون قتلي في ذلك الحين سائرين الآن في الاتجاه المعاكس، إذ هم يرومون قتل خصومي، ولست أدري ماذا سوف يفعلون في الأيام المقبلة؟ أرجح الظن أنهم سيحاولون عندئذ قتلي وقتل خصومي في آن واحد"(10).
الفارق بين الرجلين هو، كما لا يخفى، الفارق بين مجتمعيهما، ونوعي السلطة الجمهورية التي سادت على رقاب الناس. ليس هذا تجميلاً للسلطة الملكية أبداً، ولكنه بكل تأكيد تمييز لها. وردود الأفعال التي استشعرها الرجلان، أو واجهاها فعلاً، من كتابتهما، هي نفسها. يقول جمال حمدان: "لا يمكن لكاتب أو عالم أو مفكر أن يوجه إلى مصر نقداً موضوعياً بنّاءً صادقاً ومخلصاً إلاّ وعدّ على التو والفور والغرابة والدهشة: عدواً بغيضاً أو حاقداً موتوراً إن كان أجنبياً، وخائناً أعظم أو أحقر إن كان مصرياً" (ج1، ص 28). أما الوردي فيقول: "والغريب أن الكثيرين منهم كانوا يقرؤون كتبي ويشتمونها في آن واحد. ويصح أن يقال عن كتبي من هذه الناحية كما قيل عن لحم السمك: مأكول مذموم"(11).
ومع ذلك، فإنهما لا يختاران غير الخوض في موضوعيهما إلى نهاية الطريق، بالحد الواقعي المتاح، إنها قضية تتعدى كونها رغبة فكرية بحتة، إنما هي همّ وطني بالمعنى الدقيق للكلمة. يقول الدكتور حمدان "إننا قط لم نكن أحوج مما نحن الآن إلى فهم كامل معمق موثق لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكاننا، لإمكانياتنا وملكاتنا، ولكن أيضاً لنقائصنا ونقائضنا ـ كل أولئك بلا تحرج ولا تحيز أو هروب... نقول في هذا الوقت تجد مصر نفسها بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر والتفكير في كيانها ووجودها ومصيرها بأسره... وبالعلم وحده، لا الإعلام الأعمى ولا الدعاية الدعية ولا التوجيه القسري المنحرف المغرض، يكون الرد" (ج1، 219-20)، أما الوردي فيقول "أرجو أن يعلم القارئ إني حين أذكر مساوئ القيم التي كانت سائدة في مجتمعنا في العهد العثماني، والتي مازالت بقاياها موجودة فيه حتى الآن، لا يعني ذلك أني أقصد ذمّ هذا المجتمع. فالواقع أن كل مجتمع في هذه الدنيا لا يخلو من عيوب ومساوئ خاصة به. ومن واجب الباحث الاجتماعي أن يبحث في تلك المساوئ من أجل معالجتها أو محاولة إصلاحها"(12).
ومن الكتب التي أعدها علي الوردي للطبع، ولكنها لم تُنشر، هو كتاب "أخلاق أهل العراق". وفي هذا الكتاب يقول علي الوردي كشف عن "عيوب المجتمع العراقي وما فيه من قيم سيئة وتطرف قد لا تحمد عواقبه أحياناً. وكل من يدرس الأوضاع السياسية والاجتماعية التي مر بها الشعب العراقي في عهوده البائدة لابد أن يستنتج منها مثلما استنتجته. ولكني مع ذلك واثق بأني لو أخرجت هذا الكتاب لقابله كثير من القراء بالنفور. ولا لوم على القراء في هذا، فهم يطلبون من الكاتب في هذه المرحلة الثورية أن يكتب للشعب فيما يشجعه ويمجِّد أفعاله، لا أن يثبطه ويحصي عليه عيوبه"(13). ويقول حمدان واصفاً ما يصدر، أو ما يمكن أن يصدر، من مواقف تجاه كتابته: إنه "موقف خطر للغاية، يصل إلى حد الإرهاب الفكري والمصادرة على المطلوب مسبقاً. وهو ببساطة مفجعة أكبر ضمان بالتدهور والانحدار الوطني والتجمد والتخثر والتعثر القومي، لأننا بمنطقة مطلوب منا ببساطة أن نصور مصر والمصريين كيوتوبيا على الأرض، كفردوس أرضي. فالخطر كل الخطر في وجه هذا الموقف أن قد يُصبح خط المقاومة الدنيا هو الطريق السهل، خط الديماجوجية والنفاق الوطني وتملق ودغدغة غرائز الشعب وإرضاء غروره بتزيين عيوبه وتضخيم محاسنه" (ج1، 28).
ويلتقي الرجلان أيضاً في تشخيص أحد جوانب هذه المواقف المتعصبة العمياء. يقول حمدان واصفاً شكل الكاتب الذي تريده هذه المواقف: "حينئذ يمسي الكاتب، كشاعر القبيلة في الجاهلية، صناجة الوطن وبوق الشعب كيفما كانت حقيقتهما ومهما كانت هذه حقاً أو باطلاً. وبذلك يفقد الكاتب تواً وظيفته الاجتماعية ومبرر وجوده الوطني" (ج1، 28). فكتابه "شخصية مصر": "ليس دفاعاً بالحق والباطل عن مصر، ولا هو هجوم عليها أيضاً. وإنما هو تشريح علمي موضوعي يقرن المحاسن بالأضداد على حد سواء، ويشخص نقاط القوة والضعف سواء بسواء. وبغير هذا لا يكون النقد الذاتي، بل ولا يكون العلم" (ج1، 31). أما الوردي فيقول: "يؤسفني أن أقول إن العقلية الشعرية المسيطرة على أذهان متعلمينا قد أضرت بنا كثيراً. فمن طبيعة العقلية الشعرية إنها تقف موقفاً جدياً تجاه المجتمعات أو الأفراد. فالمجتمع أو الفرد في نظر تلك العقلية أما أن يكون حسناً كله أو قبيحاً كله... ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا المنهج الشعري لا يلائم المنهج العلمي الحديث. فالعلم الحديث لم يتقدم هذا التقدم العظيم الذي نراه إلاّ بعد ما تخلص من التحيز العاطفي وأخذ ينظر إلى الأمور نظرة موضوعية حيادية"(14).
ما الذي أراد جمال حمدان كتابته ولم يكتبه، فاعتذر لقارئه؟ وما الذي كان علي الوردي يريد قوله، فحبسه في صدره، وأخذه معه إلى القبر؟
في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، الصادر في العام 1965، وتثبيت التاريخ مهم هنا، تحدث الوردي عن مسألة الديمقراطية. ويطرح سؤالاً بالغ الدلالة والأهمية أمس واليوم مفاده: "هل نترك الشعب العراقي يتورط في التجارب القاسية مرة بعد أخرى حتى يتعظ بها من تلقاء نفسه، أم ينبغي أن نأخذ بيده ونرشده إلى الطريق الصحيح؟" ، ويجيب: "يمكن القول إن الوضع الراهن في العراق يحتاج إلى تخطيط ومعالجة موضوعية بمقدار ما تتحمله ظروفه المحلية. ويخيل لي أن من الوسائل المجدية في ذلك هو أن نحاول تعويد الشعب العراقي على الحياة الديمقراطية ونجعله يمارسها ممارسة فعلية، حيث نتيح له حرية إبداء الرأي والتصويت دون أن نسمح لفئة منه بأن تفرض رأيها بالقوة على الفئات الأخرى. إن هذه فرصة يجب علينا انتهازها، فالعراق الآن يقف على مفترق الطريق، وهذا هو أوان البدء بتحقيق النظام الديمقراطي فيه، فلو فاتت هذه الفرصة من أيدينا لضاعت منا أمداً طويلاً..."
بعد تحديد العلاج، يختم كتابه بالعبارة الآتية: "ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!"(17) بطبيعة الحال لم يستمع أحد، وكفّ الرجل بعد ذاك عن التطرق لهذا الحديث مع تصاعد مجريات العهد الجمهوري إلى مديات من التعسف غير مسبوقة. وعن صدى كلمات الوردي هذه عبّر الدكتور محمد جابر الأنصاري خير تعبير بقوله: "ولكن صوته (أي علي الوردي نفسه) ما لبث أن ضاع في غمرة الضجيج الأيديولوجي الصاخب حينئذ يساراً ويميناً، بحيث لم يتحول إلى تيار فكري أو مدرسة يشارك فيها آخرون" . وعن عبارة الوردي السالفة نسأل: كيف يستجيب عراقي يقرأ كلمات الوردي هذه بعد كتابتها بعشرة أعوام، عشرين عاماً، ثلاثين عاماً، أربعين عاماً؟ بالتأكيد سيدرك، من بين ما يدرك، أن كلمات هذا الرجل البسيطة جداً، ولكن العميقة، والمباشرة جداً، والصريحة جداً، رجل كان مختبره التاريخ، والزقاق الشعبي، والمقهى، وعلاقات الناس اليومية، هي أعمق وأصدق من كلّ ما قيل.
واليوم هناك الكثرة الكاثرة من مثقفي العراق، ممن عاشوا حياتهم بين طيات الكتب (في جميع ألوانها) يبدون استغرابهم مما يسود المجتمع العراقي من ظواهر بربرية، وإلى هؤلاء المثقفين أنفسهم كان علي الوردي قد أهدى كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي): "أقدم كتابي هذا إلى الذين يشغفون بالأفكار العالية فيحاولون تطبيقها في مجتمعهم بغض النظر عن طبيعة المجتمع وظروفه. لقد آن لهم أن ينزلوا عن أبراجهم العاجية وأن يأخذوا بعين الاعتبار مقتضيات الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه
وشأن نظيره العراقي يرى جمال حمدان أن المشكلة الأهم التي تواجه المجتمع المصري هي الديمقراطية كما يقول حمدان بوضوح شديد، وبصوت يريده أن يكون مسموعاً. لنستمع إلى كلماته المتأسية ولكن الصادقة والحقيقية،: "لقد تغيرت مصر الحديثة والمعاصرة في جميع نواحي الحضارة المادية واللامادية... غير أنها من أسف لم تكد تتغير من ناحية الحكم والسلطة والدولة، التي هي بالتحديد المقياس والمحك الوحيد للتطور الحضاري عموماً والتقدم الإنساني الحقيقي. ففي هذا لا جديد تحت شمس مصر: فمصر سنة 1984 ميلادية هي سياسياً كمصر سنة 1984 قبل الميلاد، والفرعونية المحدثة لا تختلف جوهرياً عن الفرعونية العتيقة وإذا كانت مصر اليوم دولة متخلفة تكنولوجياً، نصف متخلفة حضارياً، فإنها متخلفة مرتين سياسياً: داخلياً وخارجياً، كمواطن وموطن. وفيما بين الطرفين، تظل الديمقراطية هي مشكلة مصر الأولى والأم. فهي وإن لم تكن مشكلتها الوحيدة أو الأخيرة، فإنها مفتاح جميع مشاكلها الأخرى بلااستثناء. لا شيء يسبقها، ولكنها تسبق الجميع. جميع مشاكل مصر وأزماتها وكوارثها الداخلية والخارجية، في الانتاج والحضارة والتقدم، مع العدو الإسرائيلي والأشقاء العرب، مع القوى العظمى والصغرى، كل انحدار أو سقوط مصر في الحرب أو في السلم، كافة عيوبها ونقائصها وسلبياتها في المجتمع والفرد كما في السياسة والاقتصاد مصدرها وسببها الرئيسي هو الاستبداد الداخلي الغاشم والطغيان الفرعوني المقيم المستديم... إنها هي أصل مشكلة مصر كلها: شخصية مصر، مصير مصر، رخاء مصر، بل وبقاء مصر، شخصية المصري، كرامة المواطن المصري، نفسية الانسان المصري، إعادة بناء الإنسان المصري والشخصية القومية... في كل هذا وغيره فتش عن الديمقراطية أو غيابها، فإنها هي حاكمها ومقرها وضابط إيقاعها مثلما هي حلها جميعاً" (ج4، 612).