المصور الأهلي قدري عبد الرحمن..سكن القلبُ ولم تنطفئ الذاكرة

المصور الأهلي قدري عبد الرحمن..سكن القلبُ ولم تنطفئ الذاكرة

محمد كامل عارف
المصور الأهلي قدري عبد الرحمن، وهو صاحب أول ستوديو عراقي للتصوير الفوتوغرافي أسسه أبوه عبد الرحمن في بداية عام 1921 وتابع منذ ذلك الوقت تسجيل الأحداث السياسية والاجتماعية في العراق مكوّناً ما يُعتبر الأرشيف الفوتوغرافي الخاص بحياة المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة الحديثة.

وكان المصور الأب عبد الرحمن محمد عارف ورث هواية التصوير عن أبيه الضابط في الجيش العثماني وتعرف على طريقة صنع مكائن التصوير خلال وجوده في الأسر في مدينة السويس في مصر بعد انهيار الثورة العربية بقيادة الحسين شريف مكة، والتي كان عبد الرحمن أحد ضباطها إلى جانب نوري السعيد وجعفر العسكري وسعيد المدفعي وسعيد التكريتي وآخرين.
أول الصور التاريخية التي التقطها المصور الأهلي وهي صورة مظاهرة تشييع الشيخ ضاري، أحد أبطال ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق، والذي كان قد أعدم لاغتياله ضابط المخابرات الإنكليزي ليشمن.
ومن صوره في العام نفسه تتويج الملك فيصل الأول على عرش العراق، وهي صورة مشهورة ظهرت فيها إلى جانب الملك فيصل الآنسة بل التي لعبت دوراً بارزاً في تأسيس المملكة العراقية. ومن صور فترة العشرينات إنشاء أول فصائل الجيش العراقي، وتأسيس القوة الجوية العراقية، وأول مجلس لغرفة تجارة بغداد عام 1924، وإقامة البرلمان العراقي 1928. كما صوّر الأهلي المظاهرات والإضرابات السياسية، مثل أحداث 1930 ضد المعاهدة البريطانية – العراقية، وإضرابات العمال في النصف الثانية من الثلاثينيات، ووثبة كانون الثاني (يناير) 1948 ضد معاهدة جبر- بيفن وتقسيم فلسطين.
حفظ الأهلي بصوره سجلات تاريخية نادرة لشوارع وجسور بغداد وأحيائها الأثرية القديمة التي يرجع تاريخ بعضها إلى العصر العباسي وأزيلت في ما بعد، مثل أبواب مدينة بغداد القديمة والواجهات القديمة لأسواقها وجوامعها التاريخية.
وإلى جانب الأحداث والشخصيات السياسية والعسكرية العراقية صوّر الأهلي الأحداث الاجتماعية، مثل أول مؤتمر لأدباء العراق الذي عقد عام 1922 تحت عنوان "سوق عكاظ"، ويبدو في الصورة الملتقطة للمؤتمر أدباء العراق البارزين آنذاك: معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وساطع الحصري جعفر أبو التمن والأب أنستاس الكرملي.
واهتم المصور الأهلي بتصوير الفنانين والفنانات وأبطال الرياضة العراقية منذ العشرينات، مثل محمد القبانجي الذي كان يعتبر مطرب العراق الأول، وحقي الشبلي مؤسس الحركة المسرحية في العراق، والمطربات والراقصات المشهورات في بداية القرن العشرين، مثل المغنية جليلة العراقية وبدرية أنور، والراقصة منيرة الهَوزوَرْ وجميلة لاطي وجميلة عراط وبدرية هلال، والجيل اللاحق لهن؛ زكية جورج وسليمة مراد وصديقة الملاّية، كما صوّر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وفاطمة رشدي وغيرهم من الفنانين العرب أثناء زياراتهم للعراق وإحيائهم الحفلات الفنية فيه. ومن الصور الطريفة في هذا المجال صورة المطربة المصرية نادرة وهي تغني في ملهى الهلال البغدادي الأغنية المشهورة في ذلك الوقت:
"يقولون ليلى في العراق مريضة
ألا ليتني كنت الطبيب المدوايا"
ويضم أرشيف المصور الأهلي صوراً نادرة للحركة الرياضية العراقية وأبطال الرياضة الأوائل، مثل صورة الأمير غازي في فرقة الكشافة عام 1924 وأبطال المصارعة ورفع الأثقال: عباس الديك وصبري الخطاط ومجيد لولو ومهدي زنو وآخرون.

نافذة الذاكرة
وتعد نافذة ستوديو الأهلي في قلب بغداد في شارع الرشيد بمثابة متحف دائم يتجمع عندها الناس ليشاهدوا صور من تاريخ العراق. فقد حرص المصور الأهلي على عرضها باستمرار للمحافظة على ما كان يسميه بـ"ذاكرة الناس"، ولقي بسبب ذلك متاعب ليست قليلة، كان أولها اعتقال المصور الأهلي الأب، وإتلاف الصور التي التقطها لمظاهرة الطلبة ضد ألفرد موند الداعية الصهيوني في بغداد عام 1928.
وسُجن المصور الأهلي الإبن خلال وثبة عام 1948، وكان التقط صوراً عدة لمشاهد من الوثبة، منها صورة الفتاة العراقية التي قتلت وهي تلقي الأشعار الحماسية وتقود مظاهرة عبرت جسر بغداد القديم، وأطلق عليها إسم "فتاة الجسر" وسُمي الجسر في ما بعد "جسر الشهداء".
ولم تُهمل عدسة المصور الأهلي تصوير الجوانب الشيّقة من الحياة البغدادية وظرفائها المشهورين مثل الصحافيين الهزليين حبزبوز "نوري ثابت" وقزموز "فاضل قاسم راجي" والشاعر الشعبي الساخر ملاّ عبود الكرخي، والقزم الظريف خليلو، وشفتالو موزع القهوة الأهبل المتهكم في مقهى حسن عجمي، التي ما تزال من معالم بغداد المتميزة في موقعها في شارع الرشيد.
وتكشف الصور الشخصية "البورتريه" التي التقطها في الثلاثينات والأربعينات للرجال والنساء عن نزعة حداثة لافتة للانتباه كانت تسود حياة الطبقة المتوسطة البغدادية بالأخص. يبدو ذلك في الملابس وتسريحات الشعر وتجميل الوجه على أحدث طراز أوروبي ذلك الوقت: لقطات آسرة لحسناء بغدادية تقرأ كتاباً، أو تحمل ضمة ورد، أو تتكئ في جلسة شاعرية على عريشة وسط حديقة غناء.
وعلى الرغم من أن المصور الأهلي كرّس جانياً كبيراً من جهوده كمصور محترف لأغراض غير فنية فإن كثيراً من صورة لقطات فنية رائعة، وكما يقول المصور الفوتوغرافي الأميركي برينس آبوت "الوثيقة الفوتوغرافية الجيدة صورة فنية جيدة".
وصور الأهلي التي لا يخلو منها كتاب يسجل أحداث العراق الحديث وثائق اجتماعية تصور التنوع المدهش للمجتمع العراقي بقومياته وطوائفه الدينية ومستوياته الاجتماعية، وهي تعكس قبل كل شئ، ربما الروح السمحة المتفتحة الفكهة للمجتمع البغدادي الذي توالت عليه طيلة قرون مشاهد من تقلبات وتغيرات وموجات بشرية. وفي أعمال المصور الأهلي نرى قول الأديب والمفكر العراقي المشهور الجاحظ "إن الناس لو عرفوا أخلاق كل ملة وزي أهل كل لغة وعللهم على اختلاف شاراتهم وآلاتهم وهيئاتهم وما علّة كل شئ من ذلك ولم اجتلبوه ولم تكلّفوا لأراحوا أنفسهم ولخفّت مؤونتهم على من خالطهم".وإذا كانت المهمة الحقيقية للمصور الفوتغرافي طبقاً للناقدة الأميركية سوزان سونتاغ تعريف الإنسان على نفسه، فإن المصور الأهلي ساهم في تعريف المجتمع العراقي على نفسه، وهذا أقصى ما كان يطمح إليه، أن يكون جزءاً من الذاكرة الحية للناس. ذاكرة لا تنطفئ حتى عندما يسكن القلب".