«المُسعِفَة بين الرصافَةِ والجسرِ».. أَن تُضَحّي لِتجلُب النَصر «من حيث ندري ولا ندري»

«المُسعِفَة بين الرصافَةِ والجسرِ».. أَن تُضَحّي لِتجلُب النَصر «من حيث ندري ولا ندري»

 علي الكرملي
هذه الشابّة ليسَت كأيّ فتاةٍ من فتَيات هذه الثورَة، هذه الصبيَّة سبقَت كل بنات ربيعِها، ونزلَت إلى التحرير في أوج القمع والعنف الذي مورس وقتها بحق المُحتجّين، هذه البِنت احتَجّت في دُفعة الأول من أكتوبر.

نزلت إلى التحرير في نهار الثاني من تشرين، وبقيَت هُناك غير خاشية من رصاص الأمن الذي كاد أن يجهش على حياتها غير ما مرّة، ولا حتى آبهة بالقنابل المُسيلة التي تسقط بالقرب منها على بعد سنتيمترات لا أكثر، بقيت هناك حتى التاسعة من مساء ذلك اليوم.
تجاوزت ذلك اليوم بكثير من الحظ، فالكثير ممّن معها هناك سقطوا إما جرحى أو شِهداء برصاص أبناء جلدتهم من الأمن، وهدّدها في صبيحة اليوم التالي مدير عملها بإخبار أهلها أنها تترك الشغل لتذهب للاحتجاج، فما كان منها إلاّ أن تترك عملها.
نعَم، تركت لقمة عيشها، والتحقَت بالاحتجاجات، وعاشت ما عاشت من مآسٍ وقصص رهيبة في تلكم الأيام الأربع الأوائل من التظاهرات، حتى توقّفَت برهة لتعود بدفعتها الشاملة لكل الفئات المجتمعية في الـ (٢٥ من تشرين).
شاركَت منذ النهار الأول من الدفعة الثانية، تحمل معها الإسعافات الأولية المهمة في حقيبتها وتذهب لتحتج ولتعالج في آن، رغم أنها ليست من اختصاص الطبابة، تقول: "كنتُ قد تعلّمتُ ذلك منذ صغُري، لكنّني لم أدرس الطب، واخترتُ مجالاً آخر".
وبقيَت هكذا كل يوم، وبعد أن ضحّت بعملها الصباحي، صارَت تُخاطر بشغلها المسائي، لكثرة إجازاتها منه؛ لأجل بقائها في ميدان التحرير، للاحتجاج وللإسعاف، ولم يعرف أهلها في كل ذلك، حتى انتشرَت لها صورة في مواقع التواصل دون علمها، فشاهدها أهلها.
منعوها لعدة أيام، لكنّها استطاعت أن تقنعهم بأنها تذهب إلى جامعتها للدراسة، ومن هُناك تركب باصات الكرادة داخل وتذهب لتستنشق هواء الحريّة، غير مُبالية بدراستها الجامعية، وهي التي تمر بأصعب حالة دراسية، وبوضعٍ حرجٍ للغاية.
وُلدَت في أيام نيسان الأولى، لذلك تجدها بارعة في الكذب، عطفاً على «كذبة نيسان»، لكنّه كذبٌ صادقٌ لأجل الوطن، تعمل منذ أن حطّت أقدامها في الدراسة الجامعيّة، منذ ذاك قرّرت العمل لتعين نفسها بنفسها، دون الاعتماد على عائلتها، لتحسّ بقيمتها كما تقول، رغم الإرهاق الشديد من العمل الليلي، والدراسة الصباحيّة.
ديانا علي، التي لم تعبر بعد ربيعها الـ (٢٢)، قُبِلَت في كليّة إعلام بغداد منذ سنوات خمس، واشتغلَت منذ صفّها الأول كمُراسلة في وكالة موازين مرّة، وفي محطّة الديار مرّة، لكنّها ولأنّها العنيدة، المستقلّة، المنتمية لعراقها فقط، رفضت أن تتجنّد في خنادق الإعلام الحزبي الذي يفرض عليها ما يُريد.
نتيجة ذاك، تركَت محال الإعلام، واتجهَت نحو مجال التسويق والترويج في المولات التجارية، فلم تترك مجالاً تسويقياً لم تضع رجلاً فيه، "الحياة تتطلّب كل ذلك، يجب أن تُجهد نفسك لتحسّ بثمرة مجهودك، وبقيمتك كفرد في هذا المجتمع"، تقول ديانا.
استمرّت في احتجاجها كل يوم منذ الصباح وحتى الليل، حتى صيرَت (مجزرة الأحرار)، حينها قالَت ما عادَ الإسعاف الفردي مُمكِناً، فانضمّت إلى مفرزة طبيّة جَوّالة عبر صديقتها، واتخذت من الصف الأمامي تحت جسر الأحرار مكاناً لها.
صارَت كل صباحٍ تجيء لخيمة طلبة كلية الإعلام، تسألهم عمّا يحتاجونه، وتساعدهم في الطبخ للمتظاهرين، وبعد ذلك تركب «التكتك» ليقلّها إلى المفرزة لإسعاف الجرحى عند جسر الأَحرار، وهكذا حتى المساء كل يوم.
تعرّضت ومن معها إلى هجوم عنيف من قوات الشغب بالرصاص الحي، لتركض ومن معها نحو الأزقة والأفرع المحاذية للجسر، وبقوا محاصرين قرابة الساعة، «يومها قلتُ حانَت نهايتي، وصلوا بالقرب منا، لكنّ في اللحظات الأخيرة جاءنا الدعم بوصول عدد هائل من المحتجين للدفاع عنا، ممّا أعادَ الشغب إلى تمركزهم».
ومع ذلك، لم تترك الجسر وعادت له فوراً، ولو أن (عليّاً ابنَ الجهم) يعيش في وقتنا هذا، لقالَ فيها "عيونُ المَها بين الرُصافَة والجسرِ.. جلبنَ (النصرَ) لا (الهَوى) من حيث أدري ولا أدري"، نعم لغيّر مفردَة (الهوى بـ النصر)، لأجل عَينَي وشجاعة تلك المَرابطة عند الجسر القابع في قلب الرصافة القديمة حيث شارع النهر.
راحَت الأيّام، وهدأت الأوضاع، وصار بعض الطلبة ينادون بالرجوع إلى مقاعد الدراسة الجامعيّة، فحاربَت وناضلَت بكل ما استطاعَت للنأي بهم عن ذلك القرار، "تلكَ هي معركة أقوى من كل ما تحمّلناه من قمع وترهيب؛ لأن العودة للدراسة ستُجهض على الثورة، لذلك حاربت لثنيهم عن قرارهم"، توضّح ديانا.
قبل كل ذلك، وحتى اليوم تتعرّض للكثير من التهديدات بالتصفية نتيجة نقدها للأحزاب والميليشيات، وليس آخرها لـ (الصدر) بعد انسحابه من الساحات، حتى أن مرّة من المرات، وبعد ليلة واحدة من قتل الميليشيات للطالبة (زهراء علي)، لاحقتها سيارة مُظلّلة حتى دخولها لبيتها، "لم يتركوا ملاحقتي حتى عرفوا أين أسكن بالضبط فعادوا".
لكن كل ذلك الترهيب لم ينفع معها، وما أن صيرَت أحداث (محمد القاسم) الأخيرة حتى هرعَت إلى هُناك لتسعف الجرحى، والقمع والرصاص والقنابل الدخانيّة آخر همّها وتفكيرها، "حتى الآن، لا أدري كيف تقوم يداي بإسعافهم وهن يرجفن، حينما يسقطون بالقرب مني".
ديانا، كان من المفترض بها أن تتخرّج صيف العام المنصرم، لكن الكليّة فصلتها بالغياب، غير مكترثة لوضعها، وغير مقدّرة لعملها الليلي، إضافة لدراستها، غير مبالية للضغط والإرهاق الذي يجبرها أحياناً على الغياب، من قلّة النوم، وشدّة التعب.
فصلَتها الكليّة، هي وبعض الطلبة، وهم على عتبة باب التخرّج، فيما تركت الكثير ممّن لديهم الغيابات، وكأن تطبيق القرارات الحكومية جاءت لتُطبّق على فئة دون فئة، يتم فصل هكذا طلبة، فيما يُغَض البصر عن طلبة موظفين في وزارة الداخليّة، ويغيبون متى ما يشاؤون.
أولئك لم يُفصَلون، فالقرارات تُطبّق على الفقير فقط في هذه البلاد؛ ليكون هو الضحيّة في كل وقت، فقط لإرضاء السلطات الحاكمة، لكنه زمن العراق، كما قالها أحد الزعماء في حملته الانتخابية، إنه زمن العراق الذي تقوده هكذا بشريّة تهمّش المعتدل، المستقل، وترفع من شأن الحزبي إلى الأعالي، حتى في السلك الجامعي.
لكن ديانا هذه، التي ترفض الدوام إكراماً لمن ارتقى إلى السماء من أجل أن تعيش بوطن حر وسعيد، تجازف اليوم بمصير شهادتها بقرارها ذاك، لأنها ما لم تداوم وترسب هذه السنة أيضاً معنى ذلك أنه سيتم ترقين قيدها.
وبالتالي تنتظر سنوات أربع فقط لتنال شهادة جامعية كانت تبعد عنها شهراً واحد لتنالها لا غير، ومع ذلك، تقول: "الشهادة لا تهمّني، الشهادَة الجامعيّة وترقين القيد لأربع سنوات، فِداءٌ للوطن وللشهداء، لا شيء أسمى من الوطَن". ليتَ الباحثين عن المغانم يتعلّمون ولو قليلاً منكِ يا ديانا، ولكن لا حياء لمن تُنادي.