العصي والهراوات في مواجهة وعي الحقوق

العصي والهراوات في مواجهة وعي الحقوق

 سلام الحسيني
لم تكن انتفاضة تشرين لتنبثق لولا الغربلة السياسية لكل الأحزاب التي أخفقت برامجها في بناء الدولة، واستعاضت عنها بالسلطة كبديل تدير به البلاد، فعبّرت الانتفاضة عن حالة الامتعاض والغليان الشبابي الباحث عن هوية وطن حقيقية، تختلف عن تلك المشوهة التي يراد لها أن تكون بديلاً معبراً عن خطاب هوياتي طائفي وحزبي ضيق، فُرض تارةً بالقوة وأخرى بالتضليل وغسيل الأدمغة.

لذلك، لم يكن مفاجئاً انسحاب الصدر وعودته بقدر ماكان متوقعاً في ظل غياب الرؤية الواضحة المعبرة عن صوت تشرين، وهذا ما لا يُنكر، ولأسباب متعددة، منها حداثة التجربة وهاجس الماضي الذي أنتج تكتلاً سياسياً لا يختلف عن مضمون النسخ المتبقية التي تمسك السلطة، فالمواقف المتقلبة للصدر تُبين مدى التوتر وفقدان السيطرة على قضايا كبرى مصيرية بحجم حراك جم، وهو إفراز طبيعي لعملية سياسية قلقة غير ناضجة، ولا تعمل إلا بمعادلة التخادم الحزبي لتضخيم الزعيم والقائد على حساب الدولة.
نعيش اليوم حالة صراع جديد قديم، وإن لم يكن معلنًا بشكل واضح، وبقي مدفونًا في صندوق الخوف ورعب التصفية لكل من يقترب من منطقة تحليله والخوض في تفاصيله، وهو صراع الإرادة بين قطبين - العقل العقائدي وغير العقائدي - والأخير هو من يتمسك بالحقوق بغض النظر عن العقيدة، وهذه إحدى تجليات انتفاضة تشرين التي أفرزت هذا النوعية الجديدة لتغدو بارزة.
الأول عبر عنه مفهومه بصورة السلطة التي تُدير الحكم منذ غزو العراق، وأنتجت النموذج المشوه الذي سقط في هاوية الفشل من خلال نظام المحاصصة الطائفي الذي بدوره ساهم بصناعة أمراء للحروب، وهو ما كان محصلة طبيعية لسلطة العقل العقائدي الذي يصنع أشكالًا متعددة للخراب والمعارك والأعداء لتغذية مشروعه الذي يعيش على صناعة العدو لتبرير وجوده من خلال مفاهيم جذّابة كالمقاومة مثلًا، وشعارات وجدانية لا تخلو من إسقاطات التاريخ لتلامس شغاف القلب للتحشيد الجماهيري، وقد ينجح بذلك، إلا أنه سرعان ما سيفشل ويصطدم بحركات احتجاج، مثل نتفاضة تشرين، فضلًا عن التناقضات الفاضحة التي كشفت زيف الشعار والمشروع بعد القمع المريع لشباب الحراك، وهو ما شكّل صدمة توجب إعادة النظر كليًا بالقوى السياسية الإسلامية.
والثاني، يعاني من عسر الولادة في بيئة عقائدية تخوض صراع التحولات وإعادة التوازن الذهني بعد كل التجارب الفاشلة للأول، وإخفاقه في إقناع الشارع بتجربة الأحزاب الإسلامية لإدارة الحكم، فضلًا عن كونها بيئة طاردة لمفهوم التمدن، ولأسباب متعددة، لا تنتهي بماكينة الإعلام التي تشتغل على خلط الأوراق للتشويش وحرق الفكرة، لكونها ستحد من نفوذ السلطة، وتحديداً "الشيعية السياسية"، والتي تُعيد إنتاج نفسها لقواعدها في كل مرة بقوالب دينية معروفة تُعتبر من الثوابت التي لا يمكن التقرب منها، وبالرغم من ذلك، صار منافساً قوياً في الساحة السياسية، والمرحلة المقبلة ستغير الكثير في قواعد اللعبة التقليدية.
هذا العقل بدا بارزاً بقوة هذه المرة، ويشكل خطراً أكبر على المستوى السياسي والعقائدي المتعارف عليه، فلم يكن عجيباً أن يواجه بوحشية لقتله والتخلص من إزعاجاته. وانتفاضة تشرين كانت تعبيراً واضحاً للخطر المحدق بالرموز والبيوتات والعوائل التي ما زالت تعيش وهم (الزعامة والتسلط - السيد والعبد) .
نموذج السلطة في العراق الآن، لم يعد قادراً على تصديق الواقع الذي يوحي إلى قرب النهاية واستبدال الزعيم بوعي الحقوق، والجماعة الطائفية بالجماعة الوطنية، والفتوى بالهدف. إن الزعيم الذي ينتشي بالهتاف له وصورة الجماهير التي تصرخ باسمه، لن يبقى متفرجاً على "جماعة" تريد وطناً يقودها وعي جماعي قد حطم رمزية الزعامة، فحتماً سيقمعها بالعصي والهراوات، وذلك أضعف الإيمان.