بداية استعمال التّصوير الفوتوغرافي في التّنقيبات الأثرية

بداية استعمال التّصوير الفوتوغرافي في التّنقيبات الأثرية

د. صـبـاح الـنّـاصـري
صـوّت الـمـجـلـس الـوطـني الـفـرنـسي في عـام 1851 عـلى تـمـويـل حـمـلـة تـنـقـيـبـات ثـانـيـة في قـصـر الـمـلـك الآشـوري سـرجـون الـثّـاني (دور شَـروكـيـن) في خـورسـبـاد، قـرب الـمـوصـل، شـمـال الـعـراق. وكـان بـول إمـيـل بـوتـا قـد قـام بـالـحـمـلـة الأولى في عـامَي 1843ــ 1844.

وقـد كـان بـوتـا أوّل مـن اكـتـشـف آثـاراً آشـوريـة بـعـد أن سـقـطـت هـذه الـحـضـارة في غـيـاهـب الـنّـسـيـان أكـثـر مـن 25 قـرنـاً مـنـذ سـقـوط عـاصـمـتـهـا نـيـنـوى في 612 قـبـل الـمـيـلاد، فـقـد كـان أوّل مـن أزاح الـتّـراب عـن بـقـايـا دور شـروكـيـن، قـصـر الـمـلـك الآشـوري سـرجـون الـثّـاني في خـورسـبـاد، قـرب الـمـوصـل.
وعـهـد بـالإشـراف عـلى حـمـلـة الـتّـنـقـيـبـات الـثّـانـيـة هـذه إلى فـكـتـور بـلاس Victor Place الّـذي عـيّـن قـنـصـلاً لـفـرنـسـا في الـمـوصـل لـيـسـتـطـيـع الـقـيـام بـهـذه الـمـهـمـة.وكـان بـول إمـيـل بـوتـا قـد اخـتـار في عـام 1844 رسّـامـاً : أوجـيـن فـلانـدان Eugène Flandin، لـيـسـاعـده في رسـم تـخـطـيـطـات الـمـوقـع ورسـم الـقـطـع الأثـريـة، أمّـا فـكـتـور بـلاس فـقـد فـضّـل في عـام 1852 اخـتـيـار مـصـوّر فـوتـوغـرافي.وقـد اسـتـطـاع إقـنـاع الـمـهـنـدس الـفـرنـسي جـبـرائـيـل تـرانـشـان Gabriel TRANCHAND بـمـصـاحـبـتـه إلى الـعـراق لـلـمـشـاركـة في حـمـلـة تـنـقـيـبـاتـه والـقـيـام بـمـهـمـة تـصـويـر الإكـتـشـافـات والـقـطـع الأثـريـة الّـتي سـيـعـثـر عـلـيـهـا. وكـان شـيـئـاً لـم يـسـبـق لـه مـثـيـل في تـاريـخ الـتّـنـقـيـبـات الأثـريـة، خـاصـة وأنّ فـنّ الـتّـصـويـر الـفـوتـوغـرافي كـان في ذلـك الـزّمـن في طـور الـطّـفـولـة.
وبـدأت الـتّـنـقـيـبـات في عـام 1852. وكـان تـرانـشـان يـشـارك فـيـهـا ويـصـورهـا في نـفـس الـوقـت إلى أن أنـهـكـه الـعـمـل الـمـتـعـب ومـات بـعـد أن أصـيـب بـمـرض انـتـقـلـت إلـيـه عـدواه في مـوقـع الـتّـنـقـيـبـات.وقـد اسـتـعـمـل تـرانـشـان في الـتّـصـويـر الـفـوتـوغـرافي الـتّـقـنـيـة الّـتي كـانـت قـد اسـمـيـت أولاً Talbotype بـاسـم مـخـتـرعـهـا الإنـكـلـيـزي فـوكـس تـالـبـوت William Henry FOX TALBOT قـبـل أن يـطـلـق عـلـيـهـا في الـنّـهـايـة اسـم Calotype. وتـكـمـن أهـمـيـة هـذه الـتّـقـنـيـة في أنّ الـصّـورة لا يـطـبـع عـلـيـهـا الـضّـوء والـظّـل في داخـل الآلـة وإنّـمـا تُـنـتـج الآلـة مـسـودّة يـمـكـن أن يُـطـبـع مـنـهـا عـدد مـن نـسـخ الـصّـورة عـلى الـورق، وهـو مـا كـان جـديـداً في ذلـك الـزّمـن.
ورغـم أنّ الـصّـورة الـفـوتـوغـرافـيـة كـانـت آنـذاك مـسـطـحـة قـلـيـلـة الـقـدرة عـلى إظـهـار عـمـق الأشـيـاء الـمـصـوّرة أو بـروزهـا، وهـو مـا كـان الـرّسـام يـتـقـن تـنـفـيـذه، فـقـد فـضّـلـهـا الـمـنـقّـبـون مـع ذلـك لـدقّـتـهـا، فـهي نـسـخـة “طـبـق الأصـل” مـن الـشّئ الـمـصـوَّر.
وقـد الـتـقـط تـرانـشـان مـجـمـوعـات مـن الـصّـور يـظـهـر فـيـهـا الـعـمـال والـمـشـرفـون عـلى الـتّـنـقـيـبـات في كـلّ مـرحـلـة مـن مـراحـل عـمـلـهـم الـمـتـتـابـعـة. وتـحـتـفـظ الأرشـيـفـات الـوطـنـيـة الـفـرنـسـيـة بـ 51 صـورة فـوتـوغـرافـيـة بـالأبـيـض والأسـود الـتـقـطـهـا تـرانـشـان في حـوالي 1852.
ومـا عـدا الـصّـورة الّـتي وضـعـتـهـا في بـدايـة الـمـقـال والّـتي تـصـوّر اثـنـيـن مـن الـمـشـاركـيـن في الـتّـنـقـيـبـات (فـكـتـور بـلاس يـحـمـل قـبـعـتـه بـيـده وربّـمـا كـان الـثّـاني تـرانـشـان) بـجـانـب ثـور مـجـنـح، فـقـد اخـتـرت لـكـم عـدداً مـن هـذه الـصّـور.
ونـبـدأ بـصـورة لـمـمـر بـيـن حـجـرات الـقـصـر الّـذي أمـر بـتـشـيـيـده سـرجـون الـثّـاني الّـذي حـكـم مـن 721 إلى 705 قـبـل الـمـيـلاد. ونـلاحـظ طـريـقـة بـنـاء جـدارَي الـمـمـر وسـقـفـه الـمـعـقـود بـالـحـجـر. ولأنّ الـمـمـر، مـثـل بـاقي الـقـصـر، كـان مـغـطى تـمـامـاً بـالـتّـراب الّـذي تـراكـم عـلـيـه خـلال أكـثـر مـن خـمـسـة وعـشـريـن قـرنـاً وشـكّـل تـلّاً فـنـلاحـظ أيـضـاً الـثّـقـوب الّـتي حـفـرت في الأرض لـيـسـتـطـيـع الـمـنـقـبـون الـنّـزول إلـيـه :
ثـمّ عـدّة صـوّر لـمـراحـل إزاحـة الـتّـراب عـن الـبـاب رقـم 3 الـمـزيّـن بـمـنـحـوتـات جـداريـة عـلى جـانـبـيـه (رقـم الـبـاب عـلى مـخـطـط الـتّـنـقـيـبـات). فـبـعـد أيّـام طـويـلـة مـن الـعـمـل أزاح فـيـهـا الـعـمّـال أمـتـاراً مـكـعـبـة مـن الـتّـراب لا عـدد لـهـا ولا حـصـر ظـهـر أعـلى الـبـاب ثـمّ رأسي ثـوريـن مـجـنّـحـيـن كـانـا يـحـرسـانـه :
وبـعـد إزاحـة الـتّـراب عـن صـدر الـثّـور الأيـسـر صـعـد مـشـرفـان عـلى الـتّـنـقـيـبـات عـلى سـلّـم خـشـبي ووقـفـا فـوق رأسَي الـثّـوريـن :
ثـمّ صـورة الـبـاب وقـد ظـهـرت واجـهـتـه وحُـفـر في داخـلـه نـفـقـان :
وصـورة بـعـض الـمـشـرفـيـن عـلى الـتّـنـقـيـبـات أمـام الـبـاب وفـوق الـثّـوريـن. ونـلاحـظ رجـلـيـن فـوق أعـلى الـتّـل أي فـوق الـتّـراب الّـذي تـراكـم فـوق الـبـاب خـلال قـرون طـويـلـة. ومـن هـذا نـرى أنّ الـعـمـال حـفـروا عـلى عـمـق أكـثـر مـن عـشـرة أمـتـار لـيـتـوصـلـوا إلى مـسـتـوى أرضـيـة الـقـصـر الأصـلـيـة في الـزّمـن الآشـوري :
وصـورة مـجـمـوعـة عـمـال أمـام نـفـس الـبـاب :
ثـمّ صـورة لـعـمّـال آخـريـن أمـام الـبـاب :
ثـمّ صـورة (سـيـئـة الـنّـوعـيـة) بـعـد أن أزيـح الـتّـراب الـمـتـراكـم في داخـل الـبـاب وظـهـرت مـنـحـوتـة رجـل مـلـتـحي خـلـف الـثّـور :
وأخـيـراً صـورة الـبـاب وقـد فُـتـح بـأكـمـلـه :
وبـعـد وفـاة الـمـهـنـدس جـبـرائـيـل تـرانـشـان Gabriel TRANCHAND، مـرّ الـمـعـمـاري والـفـنّـان الـفـرنـسي فـلـيـكـس تـومـا Félix Thomas عـام 1853 بـالـمـوصـل عـائـداً مـن بـابـل في طـريـقـه إلى فـرنـسـا، واقـتـرح عـلـيـه فـيـكـتـور بـلاس أن يـبـقى مـعـه لـيـسـاعـده في تـنـقـيـبـات دور شـروكـيـن ويـرسـم الـمـوقـع والـقـطـع الأثـريـة. وشـرع فـلـيـكـس تـومـا في تـخـطـيـط مـكـان الـمـوقـع ورسـم الـقـطـع الأثـريـة في بـدايـة شـهـر آذار وانـتـهى مـن مـهـمـتـه في شـهـر أيّـار، ثـمّ عـاد إلى فـرنـسـا.
وفي 1855، حـمّـل فـكـتـور بـلاس أعـداداً كـبـيـرة مـن الـقـطـع الأثـريـة الّـتي كـان قـد عـثـر عـلـيـهـا في خـورسـبـاد عـلى أكـلاك انـحـدرت عـلى مـيـاه دجـلـة إلى الـبـصـرة لـتـرسـل عـلى بـاخـرة إلى بـاريـس، ولـكـنّ جـزءاً مـنـهـا غـرق قـرب الـقـرنـة ومـن بـيـنـهـا ثـيـران مـجـنـحـة ربّـمـا كـانـت ثـيـران الـصّـور الّـتي رأيـنـاهـا. وربّـمـا مـا زالـت أجـزاء مـنـهـا تـرقـد في أعـمـاق شـطّ الـعـرب إلى أيّـامـنـا هـذه.وبـعـد هـذه الـكـارثـة، نُـقـل فـيـكـتـو بـلاس في نـفـس الـسّـنـة إلى رومـانـيـا، ثـمّ عـيّـن في تـركـيـا فـالـهـنـد فـنـيـويـورك.
أمّـا فـلـيـكـس تـومـا، فـبـعـد أن عـاد إلى بـاريـس، تـرك الـمـعـمـار لـيـكـرّس وقـتـه لـرسـم لـوحـات اسـتـشـراقـيـة استـوحي أجـواءهـا مـن ذكـريـات سـفـراتـه والـتّـخـطـيـطـات الّـتي نـفـذهـا فـيـهـا.
ومـن أشـهـر هـذه الـلـوحـات “زيـارة بـاشـا الـمـوصـل لـتـنـقـيـبـات خـورسـبـاد، مـوقـع نـيـنـوى الـقـديـمـة الّـتي عـرضهـا في بـاريـس في صـالـون 1863 : زيـت عـلى قـمـاش 100× 160 سـنـتـم. والّـتي يـمـتـلـكـهـا مـتـحـف الـلـوفـر في بـاريـس. ولا نـعـرف هـل أنّـه اسـتـعـان بـتـخـطـيـطـاتـه فـقـط أم أنّـه اسـتـعـمـل صـور تـرانـشـان في تـنـفـيـذهـا.
ومـحـاولـة الـتّـنـظـيـم أو إعـادة الـتّـكـويـن الـمـذكـورة هي تـخـطـيـطـات ورسـوم هـنـدسـيـة مـعـمـاريـة قـام بـهـا فـلـيـكـس تـومـا تـظـهـر أجـزاء قـصـر سـرجـون الـثّـاني كـمـا تـصـوّر الـمـعـمـاري الـفـنّـان أنّـهـا كـانـت في الأصـل.
ولـكـنّ الّـذي نـلاحـظـه خـاصّـة هـو أنّ فـيـكـتـور بـلاس وضـع في كـتـابـه تـخـطـيـطـات فـلـيـكـس تـومـا ورسـومـه بـدلاً مـن صـور جـبـرائـيـل تـرانـشـان الـفـوتـوغـرافـيـة رغـم ريـادتـه في هـذا الـمـيـدان. وربّـمـا كـان سـبـب ذلـك أنّ الـمـطـبـعـة في ذلـك الـزّمـن لـم تـكـن تـمـتـلـك الإمـكـانـيـات الـتّـقـنـيـة بـعـد لـطـبـع صـور دقـيـقـة الـوضـوح في الـكـتـب … وهـكـذا ظـلّـت صـور تـرانـشـان تـرقـد في الأرشـيـفـات مـنـذ أكـثـر مـن قـرن ونـصـف !
عن: مدونة الدكتور الناصري (بين دجلة والفرات)