حوارقديم مع الفنانة نادية لطفى ذكرياتها عن عبد الحليم حافظ

حوارقديم مع الفنانة نادية لطفى ذكرياتها عن عبد الحليم حافظ

على الرغم من رحيل عبدالحليم حافظ، فإن حليم يكاد يكون افضل تجسيد لمقولة الغائب الحاضر، تماما مثل العظماء الذين خلدهم التاريخ في كل مجالات الحياة والتقدم الانساني. نشاهده في افلامه، ونستمع الى اغنياته كأنها اعمال فنية جديدة، نتلهف لمتابعتها بشوق ومحبة، لا فرق في ذلك بين الاجيال التي عاصرته حيا، والاجيال التي جاءت بعد رحيله، وصولا الى الجيل الحالي، بدليل ان مبيعات اغنياته تحتل الى الآن المراكز الاولى في الانتشار والتوزيع. لكن ماذا عن النساء في حياة عبدالحليم حافظ؟

في هذه الحلقات نتابع قصص وحكايات حليم مع المرأة، حبيبة، وصديقة، وزميلة له في الغناء وفي السينما.
كانت النجمة الكبيرة نادية لطفي هي احدى بطلات أفلام عبد الحليم حافظ.. تحديدا كانت بطلة لفيلمي 'الخطايا' و 'أبي فوق الشجرة' وكان حليم يغني لها وكان الجمهور يتسابق في عد القبلات التي حصلت عليها نادية لطفي من حليم عندما كان يقبلها كثيرا في الفيلم الأخير. إلا إن شائعة ظهرت كان مفادها إن نادية لطفي كانت تأكل البصل حتى يبتعد حليم عن تقبيلها في هذا الفيلم كثيرا. لكن كيف كانت ترى نادية لطفي شكل علاقتها بالعندليب التي روجت بعض القصص والشائعات بوجود قصة حب عنيفة بينهما كانت السبب في اختيارها بدلا من هندرستم لفيلم 'أبي فوق الشجرة'؟
العسل والبصل والقبلات
بداية أصرت نادية لطفي على توضيح هذه النقطة التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر وأكدت أنها لو لم تكن تريد أن يقبلها عبد الحليم في الفيلم أو أنها كانت ترفض تلك القبلات لكانت اعتذرت عن الدور منذ البداية عندما رشحت له، لكن أن يقال إنني كنت أتناول البصل في وجباتي حتى لا يقبلني حليم فهذا أمر غريب أن اسمعه لأنه بعيد تماما عن الحقيقة.
وتقول نادية لطفي عن علاقتها بحليم إنها كانت تعرفه جيدا وتجمعهما صداقة قبل أن تعمل معه في السينما لأنها كانت تتابع حفلات أضواء المدينة لصالح المجهود الحربي وكان حليم يشارك فيها، كما كان يجمعهما صداقة الشاعر الكبير كامل الشناوي فكان حليم يعشقه مثلي لأنه من العقول الكبيرة والنبيلة والنماذج الإنسانية التي قلما يجود الزمن بها.. وحليم كان يشعر انه دائما تلميذ عليه أن يتعلم ويعرف وكان طيب القلب وصبوح الوجه ولو حدث وغضبت منه.. فعندما تنظر إلى وجهه تنسى كل المشاكل والخلافات.
وإذا كان الشاعر الغنائي الكبير محمد حمزة الذي غنى له حليم 25 أغنية من تأليفه وكان قريبا جدا منه يؤكد على مسؤوليته بان حليم وقع في حب بطلات أفلامه أيضا أثناء تصوير تلك الأفلام حتى تكون مشاهد الحب في الأفلام صادقة واستمرار هذا الحب طوال أيام التصوير وانه ينتهي بعد الانتهاء من الفيلم بسبب إن حليم لا يحب أحدا أكثر من حبه لفنه حتى انه رفض زرع الكبد لان من أثاره الجانبية تأثيرا بسيطا على الحنجرة بنسبة لا تزيد على 20 %.
إشاعات
تقول نادية لطفي في حوار خاص معها حول علاقتها بحليم: في عام 1962 شاركت عبد الحليم بطولة فيلم 'الخطايا' ثم تلاقينا مرة ثانية في فيلم 'أبي فوق الشجرة' عام 1969 وهو الفيلم الذي استمر عرضه 45 أسبوعا وحطم كل أرقام الإيرادات التي حققتها أفلام كبيرة في تاريخ السينما المصرية. وقبل تصوير فيلم ' أبي فوق الشجرة' بأسابيع قليلة طلب حليم من المخرج حسين كمال أن أكون أنا بطلة الفيلم بدلا من هند رستم التي كانت مرشحة لبطولة الفيلم قبلي، وقبل المخرج. ولكن هذا التحول حرك المياه الراكدة في الوسط الفني كله إذ إن الإشاعات رددت وجود علاقة غرامية بيننا ولولا تلك العلاقة ما كان وقع اختياره علي قبل تصوير الفيلم بدلا من هند رستم. وبمجرد أن سافرنا إلى بيروت عادت تلك الإشاعات تطل من جديد حول حكاية غرامنا السري، وان عبد الحليم ما اقترح تصوير أغنية 'جانا الهوى' التي غناها لي في الفيلم في لبنان إلا من اجل توفير فرصة لتمضية أيام حلوة معي، بعيدا عن القاهرة حيث العيون تراقبنا وتحصي تحركاتنا.
خلاف وتصالح وتجارب
المهم إن الذي حدث أثناء تصوير الفيلم لينفي تلك الشائعة هو إن خلافا ماديا حدث بيننا أدى إلى توقف تصوير الأغنية يوما كاملا. ولم يطل غضبي طويلا، فقد قدرت بيني وبين نفسي ظروف عبد الحليم والأسباب التي جعلته يعتذر عن عدم استطاعته زيادة اجري عن الفيلم. فعدت إلى استئناف تصوير الفيلم بأعصاب هادئة، وساعدني على ذلك وجود ابني احمد الذي اصطحبته معي خلال هذه الفترة حيث كان جاء من أمريكا لقضاء أجازته السنوية. ومرت سحابة الخلاف بيني وبين حليم وهذا الخلاف العابر كان دليلا قاطعا ضد هواة الشائعات بان ما بيني وبين حليم هو صداقة وزمالة عمل وليس حبا. ولكن قد تشعر بالدهشة إذا قلت إننا كنا في حالة خصام دائم أثناء تصوير هذا الفيلم وكانت هناك خلافات على بعض التفاصيل في العمل ولم تكن علاقتنا على ما يرام، ولكن ذلك لم يظهر أبدا على الشاشة.. بل ظهر العكس.. علاقة حب ومودة تجمعنا وسرعان ما تصافت القلوب، لان حليم كان عف اللسان فيه حياء يدهشك. يحمل طيبة ابن الريف واصالته وصفاء قلبه، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تخدعه بسهولة فلم يكن ساذجا، بل علمته الأيام تجارب عميقة جعلته يستوعب الحياة والبشر.
حليم يغني خصيصا
حليم غنى لي 'جانا الهوى' و'مغرور' و'الحلوة' و'قولي حاجة' في الفيلمين، وأنا لا احتفظ بشرائط كاسيت تحوي أغنيات الفيلم إنما اسمعها حين تذاع بالراديو والتليفزيون وكثيرون جدا عندما يقابلونني حتى يومنا هذا يقولون لي: ' يا بختك.. عبد الحليم كان بيحبك وغنى لك هذه الأغنيات الحلوة'، فاضحك من قلبي. وعندما أشاهد الآن هذين الفيلمين وبعض أفلامي القديمة الحلوة أقول: 'الله كان شكلي حلو قوي وملابسي حلوة وأدائي جيدا'، والحمد لله إنني لم اشعر بكل هذا في وقتها لأنني لو احسست بهذا لكنت شعرت بالغرور.
حليم والملوك والرؤساء
لقد كان حليم من أصحاب الذوق الرفيع في كل شيء وكان يملك مقدرة خاصة على انتقاء الرحيق النافع شديد النقاء بينما كان يلفظ سريعا الشيء الذي يؤثر على موهبته. فقد انتقى الكثيرين من أصحاب الكلمة والعلم والثقافة، وكان قريبا منهم ولم يترك نفسه للاختيار العشوائي الذي يضر به عندما يقع اختياره على الأصدقاء من الفنانين والمثقفين والكتاب والمخرجين.. كان يتقرب كثيرا من أصحاب المواهب الحقيقية التي يستفيد منها وتستفيد منه من خلال الفن.
لم يكن يقف عند محطة لفترة طويلة، بل كان سريع التغيير والتجديد وكان مدركا لكل الأشياء من حوله وكان يسعى لتثقيف نفسه والارتقاء بمكانته حتى وصل إلى أن يقيم حوارا مع كثير من الرؤساء والملوك، علما بان هذه ليست مسألة بسيطة، فهناك فارق كبير بين أن يكون هناك حوار بيني وبين زميل دراسة أو مهنة واحدة أو أن أقيم حوارا مع ملك أو رئيس دولة مهمة بما يلزم ذلك من برتوكولات. وفي هذه الحالة لم يكن حليم مجرد جليس هدفه الترويح عن الملك أو الرئيس، ولكن كان يصل إلى حد أن يكون ندا لمن يجلس معه، وهذه مسألة تحتاج إلى دراسة خاصة.
فعندما يصبح حليم مقربا من المشير عامر ومن الزعيم جمال عبد الناصر وصديقا لجلالة الملك الحسن الثاني ملك المغرب السابق فان الأمر يحتاج إلى دراسة. وهناك من يدرس البروتوكول من اجل لقاء لمرة واحدة مع رئيس أو ملك، في حين إن حليم ابن قرية الحلوات الذي تلقى تعليمه الأول في احد الملاجيء يصبح ضيفا عزيزا على صالون الملوك والرؤساء.
وأنا اعلم جيدا كيف كان يعامل حليم في القصور الملكية وفي بيوت الرئاسة، فقد كان يذهب مثلا بشكل متكرر لبيت عبد الناصر ويجلس مع الأسرة مكتملة. فكيف اكتسب هذه الثقة؟ بالتأكيد كان شخصا ذكيا لماحا مرحا، محبا للناس ومحبوبا منهم، بالإضافة إلى لباقته وحسن خلقه وأشياء كثيرة يمكن استنتاجها من المقدمات السابقة.
حليم كما عرفته
وتواصل نادية لطفي حديثها عن حليم من خلال علاقتها القوية به كصديق واحدى بطلات أفلامه وتقول: لقد عرفت حليم ككتلة واحدة وكانت معرفتي بجوانبه المختلفة حيث كنت أراه مرة مثل البدر ومرة أخرى في المحاق. ومن وجهة نظري لا يمكن أن ترى الفنان من جهة واحدة كأن نفصل بين الفنان والإنسان، بل هو كما قلت كتلة واحدة. وأنا عاصرت حليم وتأملته ورصدت معظم جوانب حياته، ولكن لا يوجد إنسان لديه القدرة على الادعاء بأنه يفهم إنسانا آخر فهما كاملا وطول الوقت، بل إننا نفهم الناس على حسب موقعنا الجغرافي والزمني. وفي المواقف العامة كلنا نتفق على إن حليم كان من الشخصيات المضيئة التي لها إشعاع وقدرة على امتصاص ثقافات من يحتك بهم من عباقرة عصره.

عظيم في حلمه وفي انكساره
واعتقد إن حليم كان عظيما في حلمه وفي انكساره.. في ألمه وفي سعادته. كان نبيلا إلى أقصى حد وفي كل الجوانب التي استطاع أن يضيء بحساسيته المرهفة حتى المظلم منها. حليم كان يمتص ثم يجتر كل تجارب حياته الحلو منها والمر تماما مثل النحلة التي تمتص الرحيق لتفرزه عسلا مصفى.
مواقف حليم الإنسانية أؤكد انه لا يستطيع احد أن يحصيها لسبب إن معظمها ظلت في طي الكتمان والسرية لان صاحبها لم يرد أن يعلن عنها لأحد ولذلك اشعر بالخجل إذا تحدثت عن أشياء من هذا القبيل باعتبارها من الأعمال السرية الخاصة بين حليم وربه.. وان كنت أستطيع القول إن حليم عاش حياة أسرية نبيلة حيث كانت له أسرة يرعاها ويعيش معها مشاعر الأب والأخ والصديق. فهو كان يعشق جو الأسرة والبساطة الأسرية بدون تقيد أو تكلف، وأسرته كانت هي أهله، ولم يتنكر لأقاربه من قريته أبدا، لذلك كله عاش حليم إلى اليوم لأنه كان إنسانا مخلصا لفنه ولوطنه وأسرته.
إنني أرى انه لو لم يكن حليم خيرا بطبعه فانه كان سيصعب أن يكون معطاء والفن عطاء وهو كان يعطي حياته للفن ثم يهب فنه إلى جماهيره ومحبيه. وتردف نادية بقولها: أنا لست مع من يسرفون في تناول مسألة الضعف الجسدي لعبد الحليم حافظ لأنني أرى إن مرضه كان يولد تأملا وقدرة فائقة على الصبر كما يحقق خلخلة في مراكز الإحساس فيصبح الشخص ذا مشاعر مرهفة والإصابة الجسدية جعلت حليم يسمو على المادة وأنا اعتبره من اقل الناس استمتاعا بالمادة.
كان عبد الحليم حافظ بضعفه وباستكانته يجبرك على أن تحبه أو تتبنى آلامه، أو تأخذه صديقا أو أخا أو تتبناه.. لماذا؟ لست ادري... وعبد الحليم كان مثل قناة السويس.. فهو الذي يدر دخلا ماديا منذ رحيله وحتى اليوم وهذا الدخل يقدر بالملايين كون أعماله مازالت تحقق نجاحا بغير منافس بعد ما يقرب من 30 عاما على رحيله.
ومن الأشياء التي لمستها عن قرب في حليم هو انه كان يتمتع بخفة الدم. فهو يجبرك على احترامه وقبل احترامه يجبرك على حبه وبالتالي يكون سهلا جدا أن تمشي وراءه وتسمع كلامه. فحليم كانت لديه شخصية قيادية قوية.. بل اعتبره كان بالفعل رئيس مجلس إدارة مجموعة من الكتاب والمثقفين وأيضا السوقيين لان قصة صعوده من القاع إلى القمة جعلته ملما بأساليب التعامل مع مختلف الفئات. هكذا كانت أعماق هذا الفتى برغم ما يحمله من وجه طفولي جميل جعل الناس يتسابقون على احتضانه والتقرب إليه.
حليم الفنان والإنسان
أما عبد الحليم حافظ الممثل فانني اعتبره من خلال الدورين اللذين قام بهما أمامي لا بديل له وسط عظماء الممثلين، فهو كان يعرف كيف يختار أدواره ولو حاولت أن تتصور الفيلم بدونه لوقع الفيلم فورا، وأنا لا أبالغ في هذا واعتبره مثله مثل أي نجم عالمي كبير مثل لورانس اوليفييه، ولكن ميزة حليم انه كان يعلم جيدا قدراته ومتى وكيف يظهر لجمهوره. فمثلا تستطيع أن تسأل نفسك سؤالا حول دور حليم في فيلم 'الخطايا'، وحاول أن تجيب على هذا السؤال من كان يمكن أن يقوم بشخصية حسين في الفيلم؟ فلو اخترت أعظم ممثل وقتها لهذه الشخصية فان الفيلم كان سيقع ويحقق فشلا ذريعا مع تقديري الشديد للزملاء الآخرين ولكن حليم استطاع أن يخلق من هذه الشخصية شيئا خاصا به وكان رائعا في تجسيدها والإضفاء عليها من روحه ودمه.
وتردف نادية لطفي: فنه هو كل حياته. كان يعطيه كل الوقت والجهد والتركيز.. واذكر في فيلم 'الخطايا' أيضا الذي شاركته بطولته انه قام بعمل دراسة نفسية واجتماعية عن شخصية حسين التي جسدها بالفيلم، ولم يكن يكف عن الاتصال بالمخرج حسن الإمام لمعرفة كل التفاصيل الدقيقة بالفيلم خاصة شخصية حسين بكل تصرفاتها وردود أفعالها.
سفير الفن
حليم الفنان كان يتمتع بذكاء خارق يعرف امكانته ويحدد هدفه بدقة وكل عمل جديد يقترب منه لابد أن يدرسه ويتأمله جيدا ويجمع عنه المعلومات ويستشير فيه الزملاء والأصدقاء الذين كان يثق فيهم. دائم البحث عن كل ما هو جديد وثمين.. في الموسيقى والغناء والسينما والبشر.. لا يعاند ولا يركب رأسه ودائما يعود إلى العقول الكبيرة التي كانت تحيط به مثل كامل الشناوي ومصطفى أمين وعبد الوهاب وإحسان عبد القدوس الذي كان يحضر سهراته ودائم الإطلاع على رواياته وكان يستشيره أيضا في أغانيه وأفلامه.
كان يعرف انه ليس مطربا عاديا بل سفيرا للفن العربي كله، ولذلك حرص على أن يمتد تأثيره إلى خارج حدود الوطن العربي واذكر إنني حضرت إحدى حفلاته في لندن ووجدت نفرا غير قليل من جمهوره كان من الأجانب ولا أنسى أبدا حالة الذهول البادية على وجوههم وهم يستمعون إلى أغانيه وصدق أدائه وحرارة صوته ورغم إن بعضهم لا يفهمون معنى الكلمات إلا أنهم صفقوا له بحرارة.ولم أكن مبالغة عندما قلت له نحن مجرد كومبارس في أفلامك.. سنيدة.. وذلك لإدراكي إن الجمهور كان يذهب لعبد الحليم بغض النظر عن أي نجمة كانت تقف أمامه. وحليم كان يعرف ماذا يريد من جمهوره ويعرف مدى تفاعل الجمهور معه وإذا أحس إن الحرارة انخفضت بينه وبين الجمهور كان لا يغمض له جفن حتى تعود إلى طبيعتها ويستعيد الخط البياني وضعه. هكذا كان حليم وهكذا عرفته.
عن: جريدة الاهرام