في ذكرى رحيله في 18 شباط 1958..احمد حامد الصراف وصداقته لمير بصري

في ذكرى رحيله في 18 شباط 1958..احمد حامد الصراف وصداقته لمير بصري

اعداد: ذاكرة عراقية
كتبت السيدة شيماء الصراف :
المودّة، لغويّاَ، أعلى مراتب الحب، حتى قيل ” المودّة نسب” ، هذه الكلمة مفتاح علاقة الصرّاف بمير بصري، إنه عالم الإقتصاد، الأديب الشاعر رئيس الطائفة اليهوديّة في العراق . إنه دائم التعبير عن مودّته لأبي فهو الذي كتب قصيدة شعرية احتفاءً بمولد شَمول أختي وهو الذي رثى جدّتي لأُمّي بأجمل الرثاء بعد موتها ، باعتبارها آخر الأحفاد المباشرين لأبي الثناء الألوسي صاحب تفسير ” روح المعاني”.

حين غادر مير بصري وعائلته العراق بعد السماح له بالسفر ( عام 1974) لم يخبر أحداً عن قراره بعدم الرجوع، ذهب إلى مكتبة المثنّى حيث يجتمع بعضاَ من أُدباء بغداد نهاية كل صباح ليرى أصدقائه فقد لا يراهم قط بعد هذا. احتضن أبي بشدّة ، قال له : ماذا ترغب ان أجلب لك عند رجوعي؟ طال الحال، وكأنه يحتضن العراق المفارق له ويشمّ رائحته .رجع أبي يومها ظهراً سمعته يقص على أمّي باستغراب، عدويّة (اسم أمّي) شنو قصته مير بصري ، هوّ فقط رايح مكان قريب وراجع بعد أيام، لِمَ دمعت عيناه وهو يحتضنني بهذه القوّة وحتى يرفض أن يخلّي عني.
لم يلتقيا بعدها قط ، استقرّ مير بصري في لندن وهناك عاش منصرفاً إلى التأليف ، وحين كتب عن أدباء العراق كتب أجمل الكلام في ترجمة صديقه الصراف، مات متجاوزاً التسعين من العمر. كنت اتصل به من باريس(حيث أقيم) بين الحين والحين وخصوصاً في الأعياد، ترد زوجته، أقول :خالة آني شيماء، ثم أسألها عن أحوالها وصحّتها وبعدها أقول أحجي ويّه عمّي، أسمعها: مِيرغ (مير) قوم احكي مع شيماء، يأتي، اللهفة والسؤال عن الأحوال ، التمنيّات والأمنيات.
لا أعرف من مات في وطنه العراق أو من مات في الغربة، الذي أعرفه هو سبب هجرة مير بصري . إنه رجل هادئ صبور يفلسف الأمور ، ولكن لكل أمر حد ودرجة احتمال فقد كفّت السلطة عن معاملته كمواطن ؛ زارنا مرّة مع عائلته زوجته وابنته، كنا جالسين في صالون بيتنا جرى الحديث عن المدرسة قال مير بصري ان ابنته اكملت الثانويّة بمعدّل فوق السبعين، دار حديث آخر، ثم التفت أبي قائلاً للبنت : عمّو بأي كليّة ستدخلين؟ كانت فترة التقديم للجامعة، لم تردّ إلاّ بهمهمة، قال أبوها إنه ممنوعة من ذلك، لم يفهم أبي قال ان معدّلها ممتاز، حينها شرح مير بصري الأمر، لحظتها وجم أبي ولم تصدر عنه كلمة، بينما ابتسم أبوها ابتسامة خالية من أي تعبير ورفع وجهه وعيناه ينظر إلى الأعلى . وكأنه يريد التأكيد على عدم استغرابه لما يصدر عنهم (السلطة) التفت إلى أبي، قال : إنهم يعلمون جيداً أن لا نشاط لديّ سوى النشاط العلمي، مع ذلك السائق الخاص لسيّارتهم هو من جهاز المخابرات ينقل أخباره ، قال: هكذا يحس الإنسان بالغربة في وطنه .
كتب عنه صديقه مير بصري فقال :
لو كان للصداقة مساوئ –والصداقة كلها فضائل ومحاسن– لكان من مساوئها أنها تمنع الصديق من إيفاء حق صديقه والإشادة بذكر محامده وشمائله ومزاياه. وماذا عساي أقول في الصديق الكريم الألمعي والمحدث الساحر والراوية اللبق ذي الذوق الأنيق والطبع الرقيق الأستاذ احمد حامد الصراف وكيف اصف عذوبة حديثه وإشراق ديباجته وصفاء جهيرته وسريرته؟
احمد حامد الصراف شخصية ذات جوانب متعددة: فهو حقوقي بارع، شغل وظائف إدارية وقضائية كثيرة وجاب ألوية العراق رسولا للعدالة، وهو أديب يصول قلمه ويجول ضليعا بآداب العربية والفارسية والتركية وله حافظة قوية تختزن بدائع المنظوم وروائع المنثور وهو باحث محقق أولع بأخبار المتصوفة والدراويش وأرباب الطرق واستقصى سيرهم وآثارهم وهو بعد كل ذلك رجل أنساني ذو عاطفة ملتهبة تتوقد وتتمرد وتثور وله قلب شديد الخفقان يفيض باللوعة والحنان ودمع سريع الهميان يرثى لحال الإنس والجان.

الصراف في مجلس الدفتري
ذكر الاستاذ مير بصري في كتابه عن اعلام التركمان في العراق ان احمد حامد الصراف كان يصول ويجول في المجلس الكبير مجلس محمود صبحي الدفتري ، يرتل الشعر ويروي النوادر واللطائف ويمزج العربية بالتركية والفارسية ويرطن بالانكليزية والفرنسية . وقد حضر صاحب المجلس حلقتنا في احد الايام واخذ يحدثنا حديثاً طويلاً والصراف لا يستطيع السكوت فيقاطع كلامه مرة بعد اخرى .
قال الدفتري : يا احمد ، اعرني سمعــك دقـائق معدودات
ولا تقاطعني ثم تكلم كما تشاء . وسكت الصراف وتدفق الدفتري كالسيل الجارف ، حتى اذا ما فرغ من حديثه قام منصرفاً الى حلقة اخرى وقال : تكلم الان ، يا احمد ، كما تريد .
ودعا الدفتري صديقه الدكتور رضا توفيق الاديب الوزير التركي الى زيارة بغداد سنة 1940 ، فلبث قي ضيافة الحكومة العراقية اشهراً . وكان رضا توفيق ، كالدفتري والصراف ، مولعاً بكثرة الكلام لا ينقطع سيل حديثه حتى ضاق به جلساؤه ذرعاً وطووا عنه كشحاً ، الا نفر مثلنا من الشباب ظلوا يزورونه ويصغون اليه باعجاب واحترام ، وهو يتحدث بلغات شتى وعن مواضيع مختلفة من الادب والموسيقى والتاريخ الى الطب والسياسة والاثار…

الصراف وخدمة الاحتياط
ودعي الصراف قبل سنين عديدة إلى دورة ضباط الاحتياط وهو آنذاك مفتش عدلي فكتب إلي من مقره في وزارة العدلية في 16 ايلول 1939 الى مير بصري يقول: (انا يا اخي في كرب عظيم ومحنة ما بعدها محنة . ان الكاشحين الحاقدين غمزوا قضية اعفائي من دورة الاحتياط فتجدد الخطب ومازلت اعانيه ولست ادري ماذا ألاقي في هذه الايام التي شوّه جمالها هتلر الف لعنة عليه ..
( سازوركم يوم الخميس إما مودعا اياكم وذاهبا الى دورة الاحتياط واما ناجيا من هذه المحنة . لئيم ونذل من يقصّر في خدمة بلاده . لكن اين انا من القراع والصراع والكفاح وحمل السلاح ؟ لقد اصابني الارق منذ ليال وفي استطاعتي الان ان ارسم خريطة السماء ... )
ولم يكن من الامر بدّ فمضى احمد الصراف الى الدورة وكان معه في التدريب الدكتور مصطفى جواد وفريق اخر من الادباء والمحامين . واوكل بهم عريف شديد صارم فكان يوقظهم قبيل الفجر ويتولى تعليمهم الرياضة والهرولة والجري والرمي ، ذلك العريف الذي ابتلى به معهما مصطفى علي فقال :
ودّعـــت عقلي وآرائي وتفكيري
وسرت طوع عريف الجيش عاشور
و ضاق اصحابنا بالامر ذرعا فلم تمض ايام قليلة حتى اعفي الصراف لتصحيح سنّه واعفي مصطفى جواد لاصابته بالتهاب في العصب فانصرف الأديبان الى البحث والدرس والتحقيق والتنميق.