بندر عبد الحميد.. مجمع ثقافي مستقل لهواة الحب والأمل

بندر عبد الحميد.. مجمع ثقافي مستقل لهواة الحب والأمل

سماح عادل
ولد “بندر عبد الحميد” في قرية تل صفوك القريبة من الحسكة عام 1947، ويحمل إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق، سافر إلى هنغاريا عام 1979 لدراسة الصحافة.

تعلم “بندر عبد الحميد” في طفولته القراءة والكتابة على يد شقيقه، لأن أقرب مدرسة إلى قريته تل صفوك بريف الحسكة، تبعد حوالي 20 كيلومتراً، التي ارتادها لاحقاً، وكان يمضي 3 ساعات سيراً على الأقدام يومياً ذهاباً وإياباً إلى أن التحق بمدرسة العشائر الداخلية بالحسكة لدى تنقل أهله بين سهل سنجار في الربيع، وتل براك في الشتاء، قريباً من الحدود مع العراق، حيث كانت تسكن عائلته في بيوت شَعر لترعى أغنامها. في مدرسة العشائر نجح بتفوق، وانتقل منها إلى مدرسة “الغسانية” في الحسكة، حيث استأجر غرفة فيها ليستقل عن عائلته.
في مكتبة المدرسة اكتشف ولعه بالقراءة كعمل جاد، بعد نيله الشهادة الثانوية بتفوق انتسب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق لدراسة اللغة العربية. وفي دمشق تعرف على حياة أخرى أكثر اتساعاً من تلك التي عاشها في مدينة الحسكة، أخذته الحياة الثقافية بدمشق وأجواء الشعراء والكتاب، وراح يكتب الشعر الكلاسيكي، ثم انتقل إلى الشعر الحديث، إلى جانب عمله في الصحافة الثقافية، التي هيأت له مكاناً مرموقاً في عالم المثقفين بدمشق، ليصدر عام 1974 أول مجموعة شعرية «كالغزالة… كصوت الماء والريح»، التي كتب معظم قصائدها في كركون الشيخ حسن الذي اعتقل فيه لأشهر على خلفية الاشتباه بموقفه السياسي.
في الثمانينات عاد بندر إلى الحسكة، وأمضى عدة شهور في قرى ريفها البعيد قريباً من الحدود مع تركيا، ليعيش هناك تجربة مميزة، وكتب روايته الوحيدة حول تلك التجربة بعنوان «الطاحونة السوداء»، الصادرة عام 1984، وكتبها دفعة واحدة وأصدرها دون أن يعيد قراءتها.
في السنوات الأخيرة، لم يعد “بندر عبد الحميد” مهتماً بنشر ما يكتب، خصوصاً الأدب، كان يكتب ويكدس النصوص والقصائد ريثما يحين وقت إعادة النظر فيها، وانتقاء ما يصلح للنشر، لكن الموت عاجله قبل أن يجد لتلك الكتابات الوقت اللازم لإخراجها إلى النور. وكان يرى أن «حياتنا الثقافية العربية ليست متوقّفة… بل تتقهقر إلى الخلف، وبسرعة».
وعمل بعدها في حقل الصحافة، إذ درسها عام 1979 في هنغاريا، وانضم إلى مجلة “الحياة السينمائية” ليصبح عضوًا فيها، وأسس بعد ذلك سلسلة “الفن السابع” التي تجاوزت 90 كتابًا، وهي تعنى بنشر الكتب السينمائية النقدية.
كان أحد مؤسسي مجلة “آفاق سينمائية” الإلكترونية ومستشاراً للتحرير فيها، وعضوا في جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب، وله عدد من الكتب بينها رواية واحدة هي “الطاحونة السوداء” 1984،ومن مؤلفاته الشعرية: “كالغزال.. كصوت الماء والريح” 1975، “إعلانات الموت والحرية” 1978، “كانت طويلة في المساء” 1980. ومن كتبه: “مغامرة الفن الحديث” 2008، و”ساحرات السينما” 2019.
مجمع ثقافي..
في مقالة بعنوان “بندر عبد الحميد وردة أدباء سورية” يقول “حسن عبد الرحمن”: “بندر عبد الحميد عالماً ومجمعاً ثقافياً مستقلاً زاهياً وملوناً لهواة الحب والأمل والمعرفة، لم يكن أكثر تواضعاً ولا أقل كبرياءً من وطنه سورية. رحل وتركنا جميعاً أكثر ندماً لاعتبارنا بغباء لا يحد أننا يمكن أن نراه كل يوم وساعة نشاء، نؤجل رؤيته وكأنه متاح دائماً كما عودنا، دون أن نحسب حساباً بأننا يمكن أن نفقده في أي لحظة. من أكثر مايحزن ويحرق القلب أنه كان يعيش آخر أيامه يائساً فاقد الأمل منهزماً وهو يشهد حال الوطن وما حل به. لن أنسى ذات ليلة من شتاء الثمانينيات وكنت قد أرسلت قصيدة إلى مجلة الآداب اللبنانية ونستيها كعادتي في نسيان ما أحب لنفسي، لأفاجأ بعد صدور المجلة ببندر عبد الحميد وقد قرأها بإعجاب ومحبة لبعض الأصدقاء، الذين تداولوها بدورهم. اتصل بي الصديق محمد كامل الخطيب يومها ليخبرني بفرحة بندر عبد الحميد بالقصيدة. وما أزال إلى اليوم فرحاً بفرحته تلك”.
ويواصل: “كانت أولى أيام معرفتي به التي توطدت عن بعد وعن قرب كغيري ممن أحبوه وأحبهم عندما كتب مقالاً عظيماً لا أزال أذكره إلى اليوم، كان بمثابة صفعة للتكاذب والتبجح في وقته منتقداً شلة من الأدباء والصحفيين السوريين من أبناء جيله ممن كانوا يتفاخرون أمامه بقتل الغزلان ورحلات صيد الغزلان الجميلة وهم يقتحمون عزلتها البريئة ويطاردونها ليلاً في البادية السورية، بينما يزاودون ليل نهار بالشهامة والنبل والإنسانية والرومانسية والحب. مع أنه عايش وعاصر أجيالاً مختلفة من أدباء ومثقفي سورية والوطن العربي بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، إلا أنه حافظ على مسافة منهم جميعاً، أحب من يستحق ومن لم يستحق منهم وأحبوه بدورهم”.
وفاته..
توفى ” بندر عبد الحميد” في 18 فبراير 2020 عن 73 عاما.
قصيدة لبندر عبد الحميد..
سوزان المجنونة
كان الدرب طويلاً كخطوط في فناجين القهوة
مرتفعات وظلال طيور وغبار الشمس
وسوزان المجنونة
موسيقى ودم وتراب
لم نسمع من قبل صدى
لم نلمس أشجارا
لم نتعثر بزجاج.
نكتشف القبلة صمتا
نرسم جرارات وصحوناً طائرة
وخيولا من خشب عند الأبواب
نحصد قمحاً ونغني
نحصد جرحاً ونغني
في أول رحلت حب في أول يوم
في أول شهر في القرن الثامن
كانت سوزان المجنونة
تنثر بعض الأسئلة المرة
تعطي للمرتفعات الأبواب
وتعطي الفلاحين فؤوساً
وعربات نبيذ
تعطي أقلام رصاص للبحر
* * *
– الطلقة والكأس الشاهد
والجوع مغني العصر-
* * *
كان الدرب طويلاً كخطوط في فنجان القهوة
موسيقى والدم تراب
حيوانات تبكي في آخر ليل
أنهار لا أجفان لها
أجراس رماد
في أعياد القتل وفي أعياد الجوع
أجراس رماد
دن دن دن
دن دن
* * *
– كان الربيع المجنون يصعد معنا إلى أرصفة
لا تصل إليها الرصاصة- سوزان النحيفة
المجنونة ليست حزينة وليست فرحة- لكنها لا تستطيع أن
تخفي علامات الذهول- بدأت العاصفة بقبلة
تحت رنين الأجراس- كانت الأجراس القديمة
تتمايل كطيور سجينة في أعشاشها- كنا
نخفي عن أصدقائنا حبنا القديم للرقص
والرسم- نتأمل بصمت عيون الناس
والحيوانات الوسيمة- كما نتأمل الصخور
والأشجار التي لا تشبه غيرها- قالت
أخسرك- لم تكن تمزح- كانت موجة
من الكآبة تعبر وجهها الساحلي-
أذبح قلبي مشتاقاً للعشب
وموسيقى الماء
أحفر بئرا في الصحراء
اسمي عينيك زهور الليل
اسمي وجهك وقوساً وكتاناً واغني
هذي مدن
من أعطاها أرصفة- آلات حاسبة- كبريتا-
برسيما- مصاصات دماء- حصالات نقود-
قطافات زهور-
من دمرها-
موسيقى ودم وتراب
يجتمع الأطفال وينتظرون القمر المجنون
يجتمع القناصون ويقتسمون رصاص الليل
ويقتسمون العشاق وعمال الورديات-
ويحتفلون بعرس النار
الفاشستية
لا تنتظري زهراً أو قبعة
من حاملة الطيارات الأمريكية
* * *
في القرى البعيدة يعتقدون أن عنزة تطوف
على البيوت- توزع الغضب والكآبة على
جماهير الأطفال- أما سوزان فإنها تستقبل
الكآبة في مشاهد الاضطهاد والخوف
والكذب- موجة من الكآبة وموجة من الحب
المجنون- هكذا تتألق حياتها وهي تنمو
كشجرة برية لا تخاف العطش-
* * *
نبدأ- هذا أول حرف
في لغة لا نعرفها
دادا- ماما- دا- دا
مامابا- دا
سوزان المجنونة تهذي وتغني
عن عربات- عن مذبحة- عن
سجن لطيور الحب وسجن للأطفال-
حقول ذئاب وحقول دخان-
عن ثلج وبقايا إنسان- وبقايا مدن
وبقايا مزروعات.
عشنا ورأينا الدنيا في القرن الثامن
عصر خيول الجمهورية-
عصر المارلبورو
أنت أمير هذا الحزن ونحن الأسرى
في مدن السمك الميت
نحصد قمحاً ونغني
نحصد جرحاً ونغني
نكتشف القبلة صمتا
نكتشف الدنيا-
ما حدث فعلاً هو أننا كنا نسافر شرقاً،
نلتقي في الصباح الباكر ونشرب القهوة،
ثم ننظر إلى عيون المسافرين وأصابعهم،
في طريق النظر إلى المرتفعات البنفسجية،
ومرتفعات رمادية طفيفة كأنها مرسومة بقلم
رصاص- ننتظر أن يطلع منها فرسان
الهنود الحمر الرائعين – في الليل الموسيقى
والكتب- في النهار الخبز والشاي والكتب
– نضيع في المدينة تحت مطر الربيع – لا
نعرف مكاناً- ندخل بوابة ملتوية- نكتشف
صحراء صغيرة- نتفق على عظمة رسوم
ماكس أرنست وكاندنسكي وتنفرد سوزان
النحيفة المجنونة بحبها القديم لماتيس.
برقية حب من سوزان
– الخبز غداً
لو نمنا سنموت طويلاً –
سوزان المجنونة
عطر الصيف الراهن
عطر المرتفعات
وعطر جلود الناس
بكاء الحيوانات المنفية
في عصر المارلبورو
لو نمنا سنموت طويلاً
الطلقة والكأس الشاهد
والجوع مغني العصر
* * *
تسمع سوزان رنين الأجراس فتهذي بقوة
عن الجسور المعلقة والحيوانات الجديدة
وحقول الذرة والحبر- تصرخ سوزان
أن الشجر ما تنمو وطفلاً يصرخ وكفا
منسية تخلع باباً موصداً منذ آلاف السنين
– تمد يدها إلى الأجراس وتهذي- أيتها
الأجراس كوني مجنونة إلى الأبد-
* * *
كان الدرب طويلاً كخطوط في فنجان القهوة
موسيقى ودم وتراب
أجراس رماد القرن الثامن
أجراس رماد
دن دن
دن ن ن ن ن ن ن ن ن ن.