البدوي القدّيس وسم دمشق كلها بحضوره..بندر عبد الحميد... نصف قرن من ثقافة الظّل

البدوي القدّيس وسم دمشق كلها بحضوره..بندر عبد الحميد... نصف قرن من ثقافة الظّل

خليل صويلح
شاعر كوزموبوليتي زاهد بالضوء والمنابر، كتب آلامه بنبرة ساخطة ضد كل ما يحدث في الكوكب. قبل أيام، رحل بندر عبد الحميد في شقته في العاصمة السورية، بعدما كرّس اسمه شاعراً طليعياً وأحد أبرز أصوات السبعينات. لاحقاً، انكفأ نحو السينما بوصفها مصنعاً للخيال، قبل أن يصمت تماماً في السنوات الأخيرة، أو أنه كان يكتب قصائد بشكل متقطّع، على أمل بصدور أعماله الكاملة التي لم تُنجز إلى اليوم.

ما الذي سنفعله الآن في غياب بندر عبد الحميد (1947- 2020)؟ سنفتقد ذلك الحضور الآسر إلى الأبد، وسترتبك خطواتنا ونحن نعبر ذلك الشارع الضيّق في الصالحية، من دون أن ننعطف إلى بيته التاريخي في منتصف الشارع، البيت الذي كان لا بد من زيارته كي تكتمل صورة الثقافة السورية المضادة بكل أطيافها وسجالاتها المتناحرة، بزهوها وانكساراتها، تبعاً لصعود واندحار الخط البياني للثقافة. فهذا المكان العجائبي هو «ترمومتر» البريق وانطفاء الشعلة، ملجأ الغرباء والعابرين، ههنا متحف الظل، لا تكتمل الصورة إلا بزيارته، ومباركة عتبته، ورائحة الألفة التي يمنحها لك هذا البدوي الذي لم ينكر وشم معصمه مرّة واحدة.
شيوعيون وبعثيون، مؤمنون وملحدون، سينمائيون ومسرحيون وشعراء، تحت سقفٍ واحد عابر للأجيال والأفكار وقصص الحب، فيما تتجاور على الجدران صور غيفارا ومارلين مونرو وماياكوفسكي في حوارات صامتة وسريالية بفعل كولاج حاذق. طائر الحجل الذي غادر بادية الجزيرة السورية ذات يومٍ بعيد إلى دمشق، من دون أن يفقد رائحة الهال، أو يبدّل خفق أجنحته، كما فعل آخرون في وضح النهار... اختار الهامش بكامل رضاه، انسجاماً مع عبثيته وعدميته ونفوره من الأقفاص. لم يقف يوماً فوق منصّة تكريم، فيما كان الأنصاف والأرباع يتوافدون إلى الوليمة. كان ملاذاً للحرية بأوكسجينها الأقصى، في غرفة بلا جدران، وكان كتفاً نتكئ عليه جميعاً، من دون أن نفكّر يوماً بأنه سيغيب. مات بهدوء يشبه طيفه الناحل. مات وحيداً، فجر الاثنين، لنكتشف بعد 16 ساعة بأنه أُصيب بنوبة قلبية، من دون أن يسعفه أحد.
آخر أعماله «ساحرات السينما» الذي يعتبر انطولوجيا ضخمة لنجمات سينما الزمن السعيد
أول من أمس، كان صاحب «إعلانات الموت والحريّة» يرقد في برّاد الموتى في «مستشفى المجتهد» في دمشق، كما يحدث للموتى، فيما كنّا تائهين في الشارع، أمام مرسم جبر علوان مكان إقامته الأخيرة، ننتظر تقرير الشرطة عن حادثة موت عادي. لن يعود إذاً، إلى مسقط الرأس على بعد ألف كيلومتر، ليدفن هناك محاطاً بأشجار الحرمل البري والسلماس، إنما في مقبرة الغرباء في دمشق. لا تكفي ورقة النعي كي تطوي حياة كائن استثنائي وسم دمشق كلها بحضوره. دمشق الأخرى يتيمة أمس واليوم، ذلك أن بندر عبد الحميد صنع دمشق أخرى بأمتار مربعة قليلة، وأطلق فراشاته إلى كل الجهات. كان صمته إجابة على وجعٍ مقيم في الضلوع، ينصت إلى الآخرين، كأنه الضيف لا المضيف. يكتفي بعبارات مبتورة في وصف جنازة البلاد. كان يذوي على مهل مثل مصابيح المدينة، نائياً بنفسه عن السجالات الساخنة، أو المواقف الناريّة، مكتفياً برفع راية الحرية كمسلك حياتي لا يحيد عنه، فهذا شاعر كوزموبوليتي زاهد بالضوء والمنابر. يكتب آلامه بنبرة ساخطة ضد كل ما يحدث في الكوكب، وهو يرنو إلى احتضاره عن كثب، بعدما خبر باكراً عتمة البلاد في سجن «الشيخ حسن» قرب قلعة دمشق بتهمة رقابية أثناء عمله في إحدى الصحف المحليّة. هكذا اتجه إلى السينما ليدير مجلة «الحياة السينمائية»، غارقاً بين صور نجمات العصر الذهبي. وسوف يترجم إحدى أجمل قصص وليم سارويان «عزيزتي غريتا غاربو»، قبل أن يطلق سلسلة «الفن السابع» التي أصبحت اليوم أرشيفاً ضخماً للمكتبة السينمائية العربية. انكفأ نحو السينما إذاً، بوصفها مصنعاً للخيال، فيما استمر في كتابة الشعر كواحد من أبرز شعراء السبعينيات، قبل أن يصمت تماماً، في السنوات الأخيرة، أو أنه كان يكتب بشكل متقطّع قصائد ستضيع وسط فوضى مكتبته الضخمة، وسنقتنص بصعوبة إحدى قصائده الأخيرة، على أمل بصدور أعماله الشعرية الكاملة التي لم تُنجز إلى اليوم. يقول: «نحن هنا نقرأ ونكتب ونرسم/ نشرب القهوة في الصباح الباكر/ قبل أن تختفي النجوم/ وننتظر الربيع القادم، دون الأغاني العسكرية والأعلام السود». بهذه السطور لخّص بندر عبد الحميد مكابداته في الحرب، ثم أدار ظهره للمذبحة العلنية، مكتفياً بسخطه الجوّاني على فصول الكارثة التي كانت تحفر في أعماقه مثل دمّلة قيد الانفجار. نحكي عن الشخص المرهف وفضائله، وننسى منجزه الأدبي بوصفه شاعراً طليعياً، أسس للموجة الثانية في قصيدة النثر، بعد تجربتين إيقاعيتين نافرتين هما «كالغزالة كصوت الماء والريح» (1975)، و«إعلانات الموت والحرية» (1978)، فيما كانت مجموعته الشعرية «احتفالات» (1979) عتبة تأسيسية مدهشة ومفارقة ونوعية لقصيدة النثر، والتي سيقع في غوايتها شعراء كثر من الجيل اللاحق، وصولاً إلى «مغامرات الأصابع والعيون»، و«كانت طويلة في المساء»، و«الضحك والكارثة»، و«حوار من طرف واحد». وسيعود إلى مناخات الجزيرة السورية في رواية يتيمة هي «الطاحونة السوداء»، بالإضافة إلى كتب سينمائية كان آخرها «ساحرات السينما»، وهو انطولوجيا ضخمة لنجمات سينما الزمن السعيد.
لكن ماذا لو كتب بندر عبد الحميد ذكرياته عن هذه الغرفة التي عبرها المئات؟ كان يهزّ رأساً بوعدٍ غامض، لن يفي به لا حقاً، وربما كان محقّاً، فهو يحتاج إلى دليل هاتف ضخم كي يورد أسماء ضيوفه، شرقاً وغرباً. عدا كبار الكتّاب السوريين، لن تستغرب أن تجد يابانية تدرس اللغة العربية في دمشق، أو يمنياً منشقّاً، أو عراقياً لجأ إلى البلاد، أو بدوياً من قبائل الجزيرة، أو مصرياً أتى في رحلةٍ خاطفة، أو هندياً، أو قبطاناً متقاعداً، أو صعلوكاً لم يجد مأوى، أو عاشقاً محزوناً. وفي المقابل، سيسجّل الآخرون ذكرياتهم عن زيارة لهم إلى دمشق، كيف اكتشفوا الألفة في بيته، كأن الزيارة لا تكتمل إلا بالحجّ إلى هذا المكان والطواف حوله.
تعتبر مجموعته «احتفالات» (1979) عتبة تأسيسية مُدهشة ومفارقة ونوعية لقصيدة النثر
في ظهيرة قديمة، وإثر زيارة جماعية له (محمد ملص وعادل محمود وكاتب هذه السطور)، كان الشجن في أوجّه، ونحن نرى رمل أيامنا يتسرب من بين الأصابع، في مدينة مغدورة ومعتمة وكئيبة، كتبتُ حينئذٍ «نصف قرن من ثقافة الظّل بمشهديات متبدّلة على الدوام، مثل بكرات فيلم تدور في صالة معتمة، نظراً إلى غياب مثقفين بارزين كانوا جوهر الثقافة السورية وأسباب حراكها وبهجتها. كان محمد ملص الذي بدأ يتردّد إلى المكان بعد غياب سنوات عنه، يتحسّر بأسى على حجم العطب الذي أصاب أحلام ذلك الجيل، وكيف تحطّمت سفنه في عراء لحظة عبثية مجنونة، لافتاً إلى ضرورة ترميم المكان على نحوٍ آخر، إذ لطالما انهمك المثقف السوري بالأسئلة الكبرى على حساب روح المدينة وطبقاتها المهملة، فيما يؤكد عادل محمود على ضرورة ترميم أرواحنا بالحوار، ولملمة شظايا من بقي صامداً في البلاد، وإعادة فحص الهوية السورية، ونزع الألغام عنها، بقراءة مغايرة، أقل ريبة، ذلك أن ما تكشّف عن اختلال مفهوم الهوية الوطنية لدى شريحة من المثقفين، يدعو للهلع حقاً». منذ أيام قابلته في الشارع ــــ يفصل بيننا شارعان ــــ سألته عن أحواله، فأجاب: «كئيب وتعيس ووحيد». أدركت وأنا أودّعه بأنه يحتضر بصمت.
كان طائر الحجل يرمّم أحزانه السريّة وجناحيه المكسورين بعشب روحه، في محاولة للتحليق بين خيبةٍ وأخرى، وها هو يباغتنا بطعنة غير قابلة للشفاء. نحتاج إلى زمن طويل كي نقنع أنفسنا بغياب هذا القدّيس، لكن كيف نعبر أمام مضافة البدوي التي لم تغلق بابها يوماً؟ تعالوا نطلق اسم بندر عبد الحميد على هذا الشارع، برغم أنف البلدية وأصحاب الأختام.