خائن الكلمات.. جان دمو مترجماً

خائن الكلمات.. جان دمو مترجماً

زعيم نصار
1
حياة جان دمو تكاد تكون يومًا واحدًا يمتد من أربعينيات القرن الماضي إلى بداية الألفية الثالثة،و من كركوك إلى بغداد ومنها إلى عمان فالمنفى الاسترالي. حياته يوم واحد مقداره خمسون عاما مما نعد ونحصي، أما هو فلم يفرق بين لحظة وأخرى، كل لحظاته متساوية ومتجانسة،

يشرب ليثمل، ويثمل لينام، وينام ليصحو ويصحو ليشرب، هكذا عرفته وعشت معه في طرقات بغداد، وحاناتها ومقاهيها، يقرأ في الحانات والفنادق ويكتب ويترجم فيها، لم يكن لديه أي عمل سوى القراءة والكتابة غير المنجزتين فهو لم يتم قراءة أي كتاب كما قال لي مرة. قبل الانتهاء من الكتاب الذي بين يديه يصرخ ما هذا الضجر؟ ضجر قاتل، ثم يلوذ بصوته ليؤدي أغنيته المفضلة (أنت و بس إلي حبيبي، لفائزة احمد) بعد أن ينتهي من غنائه تخرج من أعماقه حسرة عميقة مع تفوه دائم وبصوت منخفض..آه... آه... يا.....
2
جان لم ينجز نصاً كاملاً، فهو دائما يترك نصه بلا نهاية أو بلا عنوان فيرميه أو يعطيه لأصدقائه لينشر دون علمه. حياته: خمر، وشعر، وترجمة، وتفوهات نقدية ذكية، وشتائم ونوم. حياته هي ثلاثون قصيدة في أقصى تقدير، مجموعة (أسمال وقصائد أخرى) وترجمات منشورة هنا وهناك هي: هذا العمل (تيد هيوز - مختارات شعرية ودراسة) وثلاث قصائد لاليوت، وثلاث قصائد لاوكتافيو باث، وقصيدة (مكانس) لشاعر أميركي هو جارلز سيميك، و قصة قصيرة لسومرست موم ومذكرات سلفادور دالي الغرائبية التي نشرت بعد رحيل دالي في مجلة الأقلام، وحوارات قليلة منشورة في الصحافة العراقية والعربية.
3
في قصائده وترجمته كان جان دمو يدون لحظته الطويلة، كتابته هي نوع من المذكرات اليومية التي تستمر بلا نهايات ولا إتمام، فهو لم يترجم من (كتاب – تسعة شعراء معاصرين) للناقد الإنكليزي (ب. ر. كنك- -p.r.king) إلا جزء من الفصل الذي يعتني بشعرية تيد هيوز.جان عندما يبدأ بعمل ما لم يستطع إنجازه لا لأنه عاجز عن إتمامه، بل يصيبه الضجر والملل من كل شيء حتى انه ينتقل إلى أكثر من ثلاث حانات في اليوم الواحد، ويفارق جلّاسه كثيرا ليعود إليهم مرة أخرى، وينتقل أيضا في الحانة الواحدة بين أكثر من ثلاث موائد في الساعة الواحدة، أريد أن أقول: إن جان دمو كان يكتب ليغير مزاج لحظته قسرا بالكتابة فهو يدون يومياته من خلال ما يترجمه أو يكتبه.
أن عمل جان هو بحد ذاته كتابة وترجمة لأحداث حياته، يرصدها، ويعيشها، يتأملها،ويسجلها بوصفها ممارسة لزمن إنسانيته في المكان، جان كائن يستبد به القلق من كل جوانبه، القلق من الموت، القلق من الإفلاس، القلق من فقدان المأوى، أو المبيت،القلق من أشباح السلطة، وكان يعاني من وحشة شديدة، يقول جان في قصيدته (الظل): ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي.
الغرفة مربعة، وكذلك القلب.
مع آخر سجائري يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً.
ويقول أيضا في قصيدته (آه. لم القوارب هذه):
ماذا يفصلني، مالذي يمكن أن يفصلني عن المستقبل
سوى النوم والارتخاء؟
في مستنقع أوسع وأكثف من الذاكرة، تبدو ظلال الفجر تتأرجح
بين الليل والليل.
يموت حاضري.
كأنه في كل كلمة يقولها يترجم لحظته أو أناه الشعري وقد تجرد عن فرديته ليتحدث بلسان الإنسان وهو يسير على حبل الحياة ومن تحته هاوية العدم. لقد انهارت لحظته الأبدية وتشظت، فهو يعانق عزلته وموته وقلقه ولديه القدرة العميقة على النظر في حقيقته، وفي مرآة متاهته، لم يستطع أن يخترع حضوره إلا على بياض الورق، في روحه يمتزج الماضي والمستقبل ويندثرا في نقص لم يكتمل ابد اً. جان الشاعر كان يخون كلماته، يخونها ليدلي الملاك على المائدة مائدة الخمر والرغبة والمرح والرقص والغناء، ولا أتذكر من هو الذي قال: الشاعر هو من يدلي العاصفة على القيثارة، الشاعر هو من يغيـّر العزف على أوتار اللغة. جان دمو كان دائما يشكو من غباء اللغة وإنها مدنسة ومُـلاكة حتى الاجترار، وينوه عن خيانتها،عن خيانة الكلمة لمضمونها، خيانة الدال للمدلول، من هنا حاول أن يخلق له لغة أصلية صافية بلورية، وهذا ما يتضح في ترجمته لتيد هيوز وقصائده في أسمال، حيث تجد لغة أنيقة غير مترهلة، لغة جميلة لا لغو فيها ولا زوائد. وربما مقارنة بترجمات أخرى لنفس النصوص والمقدمة تكون ترجمة جان دمو أجمل وأفضل الترجمات.