ذكريات وطرائف..مدينة النجف ومكافحة الامراض والاوبئة في العهد العثماني

ذكريات وطرائف..مدينة النجف ومكافحة الامراض والاوبئة في العهد العثماني

د. عبد الستار شنين علّوة
لقد ادت مجموعة عوامل متضافرة الى تردي الاحوال الصحية في مدينة النجف خلال فترة العهد العثماني الأخير (1831- 1915) وما بعده، كان في مقدمتها الإهمال الحكومي العام ، وعدم العناية بالامور الصحية للسكان، اذ خلت المدينة من أي طبيب او صيدلي حتى سنة (1908)، كما لم يُنشأ فيها أي مستشفى او مستوصف حكومي حتى خروج الاتراك منها سنة (1915).

و كان لقدسية النجف وطبيعة الاجواء الدينية السائدة فيها اثر كبير لدى فئة واسعة من الناس في تعزيز النزعة القدرية التي كانت ترى بأن المرض ما هو الا قدر من الله سبحانه وتعالى ، لذلك فان على المريض ان لا يسعى الى مقاومته لانه امر الله الذي لا مفر منه ، وعليه ان يستسلم له ويرضى به مهما بلغت المعاناة ومهما زاد الضرر . وقد ادى ذلك الى امتناع الكثير من الناس عن إجهاد أنفسهم في الوقاية من المرض.
ويشير الى ذلك ايضاً السيد محسن الأمين في اعيان الشيعة عندما اجتاح النجف الطاعون الكبير سنة (1831) ، وقد ترك المدينة وخرج منها اغلب الناس ، فقيل للشيخ حسين نجف الا تخرج ؟ فقال انظروا الى هذه المأذنة – مشيراً الى منارة الصحن الشريف- ان خَرجتْ خَرجتُ . كما يشير في موضع اخر بعض تفاصيل هذا الوباء الخطير والموقف منه . فيذكر ان السيد باقر القزويني قد رأى في المنام الإمام علي ( عليه السلام ) يخبره بأمر الوباء وبأنه سيُختم به. ولما وصل الطاعون الى النجف واخذ بالانتشار والفتك بأرواح الناس لم يخرج السيد باقر من النجف بل استسلم لإرادة القدر ، وظل قائماً بأمور المرضى وتجهيز الأموات . اذ بلغ عدد الموتى في كل يوم ألف نفس ولمدة اسبوع ، وقد جهز ودفن ما ينوف على الاربعين الفاً طيلة مدة الوباء ( على الرغم من سرعة انتقال مرض الطاعون وفتكه بضحاياه إلا اننا نتحفظ على ضخامة هذا العدد . إذ حتى لو فرضنا بأن الطاعون قد فتك بنصف سكان النجف وهذا لم يحصل ، فأنه لا يصل الى هذا العدد الكبير ، اذ لم يكن في النجف خلال هذه الفترة هذا العدد الكبير من السكان . إلا ان هذه المبالغة يمكن لها ان تعطينا صورة كافية عن حجم الخطر الذي كان يمثله الطاعون على حياة الناس .
اذ كان يحضر الى الصحن الشريف مع مجموعات عيّنها للتجهيز ، والتغسيل ، ولرفع الجنائز ، و الدفن. فيتمم صف الجنائز ويصلي عليها صلاة واحدة ثم ترفع ويصف غيرها وهكذا ، ويوضع في كل مرة بين العشرين والثلاثين و اكثر . ويبقى هكذا حتى المغرب ، الى ان خف الطاعون في شهر ذو الحجة ، وتوفي هو في شهر محرم.
وقد تأثر أدباء النجف وشعراؤها بما يحل بالمدينة من أمراض و أوبئة ونكبات فتكت بأرواح الكثير من العلماء والأدباء وعامة الناس ، فنظمت القصائد وعقدت الندوات الأدبية ، ومنها ما نظمه الشيخ طاهر الحجامي حينما حل وباء الكوليرا في النجف سنة ( 1322هـ / 1904م) وفتك بسكانها ، مؤرخاً عام حلول الوباء وانتشاره وحالة الناس وفزعهم وخروجهم من المدينة الى الصحراء او البحر فيقول :
اذا كنت لا تدري فقد برح الخفـا
بحالي فسـل تأريخ ( ما حل بالغري)
ألمّ الوبا يومين فارفض جمعنــا
فمن مصحر في جنح ليل ومبحــر
وكم أيمّ حنّت لثكلى وكم بكـــى
برئ على مضني ومضني على برئ
وها عالتي لم تعرف الغمض ليلها
مخافة ما يأتي بصبح مبكـــــر
وهل بعد هذا يجمل الصبر سيّدي
وقد حيل ما بيني وبين التصـبر.
ويصف لنا مجيد الموسوي الإجراءات الحكومية التي اتخذت في حينها لمقاومة الوباء ، اذ لم تتجاوز اصدار مديرية الحجر الصحي ( الكرنتينية) في ولاية بغداد أوامرها بمنع حمل الجنائز الى النجف ، ومنع الدفن في الصحن الشريف حتى على النجفيين . وقد شكلت سلطات ادارة القضاء نطاقاً من الحرس داخل المدينة وخارجها ، فلم يصل الى النجف أي جثمان كان، وصادف ان توفي حجة الإسلام الفاضل الشربياني الذي انتهت اليه الزعامة الدينية في النجف انذاك ، ولم توافق السلطات الحكومية على دفنه في الصحن وتشدد القائممقام في ذلك . الا انه دفن رغماً عن ارادة السلطات الحكومية والصحية تحت حراب بنادق المسلحين من النجفيين حينما شكلوا مظاهرة مسلحة عند التشييع والدفن .
وفي سنة ( 1333هـ / 1915م) انتشرت في النجف حمى خبيثة سرت اليها من كربلاء بسبب كثرة البرك والمستنقعات والبعوض فيها ، وقد ساعد على انتشارها قلة العقاقير الطبية واهمال العناية بالصحة العامة ، وقد كثرت الوفيات وكان اغلبهم من الفقراء. وفي السنة التالية ( 1334هـ / 1916م) ظهر الطاعون الدملي في الفرات الأوسط من مدينة الحلة حتى الكوفة ، وفي النجف ظهر مع بداية شهر جمادي الآخرة واختفى . ثم ظهر من جديد في النجف في اواخر شهر رمضان واستمر الى نهاية شوال ، وقد مات فيه الكثير من المصابين ، كما عوفي بعضهم رغم الإصابة .
ولكون النجف مدينة مقدسة كان يقصدها الآلاف من الزائرين من شتى الأقطار الإسلامية، وخصوصاً المشرقية كالهند وباكستان وأفغانستان و إيران لغرض الزيارة ودفن جنائز ذويهم. ولكون هذه الأقطار كانت على الدوام موطن الأوبئة و الطواعين . فأن الوباء اذا ما انتشر في احد هذه البلدان سرعان ما يصل الى النجف بواسطة الزائرين او جثث الموتى المنقولة للدفن . ومما يساعد على ذلك عدم جدية عمل المحاجر الحدودية ، وانتشار الرشوة بين موظفيها ، مما يسهل عبور حاملي المرض او حتى المصابين به بعد دفع الرسوم و الرشاوى.
كما يمكن للامر نفسه ان يتكرر في موسم الحج . فبحكم موقع النجف كمحطة اخيرة على طريق الحج القديم ، كان عليها ان تستقبل الآلاف من الحجاج الذاهبين لأداء مناسك حج بيت الله على هذا الطريق من مختلف البلدان الإسلامية المشرقية والمدن العراقية . وفي حالة وجود أي اصابة لأي مرض معدي فإنها سرعان ما ستنتقل الى النجف عند وصولهم لها ، واستراحتهم فيها لعدة ايام قبل انطلاقهم الى بيت الله .
عن: رسالة (التاريخ الاجتماعي للنجف 1932 – 1968)