التدرن الرئوي (السل) كان مرضا شائعا بين العراقيين

التدرن الرئوي (السل) كان مرضا شائعا بين العراقيين

د. حيدرحميد رشيد
يعد مرض التدرن الرئوي من المشاكل المهمة في قضايا الصحة العامة في العراق طوال العهد الملكي ، وسمي احياناً بالمرض الاجتماعي ، لأن الإصابات به تحدث بصورة رئيسة في أوساط الأحياء الفقيرة والمزدحمة ، ولاسيما في المدن وفي المقدمة منها بغداد وكربلاء والنجف وأول أسبابه هو سوء التغذية والعيش في المساكن غير الصحية والمزدحمة حيث لا تتوفر فيها التهوية،

ولا تدخلها أشعة الشمس. وينتقل هذا المرض عادة عن طريق الرذاذ المعدي الذي يزفره الشخص المصاب ، وعن طريق تناول الحليب الملوث ، وبسبب عادات اجتماعية تنم عن انخفاض الوعي الصحي كالعطاس الطليق والبصاق غير المقيد.
كما أنه يعد من أكثر الأمراض الانتقالية انتشاراً ، فقد سجلت الدوائر الصحية عام 1956 فقط (15919) إصابة ، تعتقد السلطات الصحية هذا الرقم لا يمثل سوى (10%) من الإصابات الموجودة لأن الكثير من المصابين كانوا يمتنعون عن مراجعة المؤسسات الصحية لأخذ العلاج بسبب فقرهم ، ونظرة المجتمع للمصابين بالتدرن الرئوي بأنه " خزي وعار " ، فكانوا ينبذونهم وينبذون أسرهم ، مما دفع الكثير من المرضى للانتحار ، ولاسيما النساء منهم.
لم يكن تفشي هذا المرض بين صفوف الفقراء خصوصاً وأوساط واسعة من الناس بعيداً عن متناول الصحافة اليومية، التي أطلقت عليه مرض الفقراء ، فكتبت بهذا الشأن صحيفة " الوطن " مقالة بعنوان " مرض الفقراء وكيفية القضاء عليه " ربط فيه كاتب المقالة بين مرض التدرن وبين الفقر المدقع الذي كانت تعانيه شرائح اجتماعية معينة ، فالتدرن الرئوي ، كما يذكر الكاتب يستفحل حيثما وجد بيئة صالحة ، وغالباً ما تكون هذه البيئة هي محلات سكن الطبقات الكادحة ، " وما أكثر هذه الطبقات في بلادنا " ، ففي الريف حيث الفلاحون الذين ينهش النظام الاقطاعي أجسادهم ، وفي الأحياء العمالية حيث الصحة معدومة " فلا هواء نقي ولا ضياء كافٍ وهم محرومون من الغذاء الصحي" ، ففي مثل هذه البيئة يجد مكروب السل محلاً ملائماً لنموه وانتشاره. ووجد الكاتب ان انجح حل لاستئصال شأفة هذا المرض هو أن تقوم الحكومة برفع المستوى المعاشي للشعب الجائع الجاهل المبتلى بالأمراض العديدة.
كان من الطبيعي ان يجد مرض التدرن الرئوي مرتعاً خصباً وراء جدران السجون وان يبتلي به السجناء ، فضلاً عن معاناتهم الأخرى التي كانوا يعانون منها . ونجد ذلك واضحاً في مطالبة المسجونين السياسيين المبتلين بمرض التدرن بنقلهم من مستشفى البصرة وإعادتهم إلى مستشفى الحميات ببغداد، لتعذر تحسين ظروفهم الصحية في مستشفى البصرة بسبب تردي مستوى الخدمات الصحية فيه .
ولم تجد مطالب هؤلاء، ولا المطالب الأخرى التي رفعوها مرات عدة إلى المسؤولين استجابة تذكر ، ولم يلتفت أحد من هؤلاء المسؤولين إلى معاناتهم من مرض التدرن الرئوي ، الأمر الذي دفعهم إلى إعلان الإضراب عن الطعام حتى الموت، أو يستجاب لمطاليبهم، تلك المطالب التي تتفق مع التزامات العراق الدولية بوثيقة حقوق الإنسان العالمية .
لم يكن المعتقلون والسجناء هم المبتلون الوحيدون ، بهذا الداء الوبيل ، بل عانى منه العمال الذين كانوا يعملون في ظروف صحية ومعاشية سيئة أيضاً، فعلى سبيل المثال لا الحصر طالب علي شكر رئيس نقابة عمال السكك الحديد إدارته بضرورة رصد مبلغ مناسب من ميزانياتها من أجل إرسال العمال المصابين بمرض التدرن الرئوي إلى الخارج لخلو العراق من المصحات الصحية المخصصة لهذا المرض. ووجد هذا الصوت وأصوات أخرى صداها في الصحافة العراقية التي بدأت تطالب المشرفين على المؤسسات الصحية ضرورة إنشاء مصحات للأمراض الصحية في المناطق الشمالية ، وتشييد مستشفيات متخصصة لمعالجة مثل هذه الحالات وحالات مرضية أخرى ، وقد وجدت بعض من تلك المطالب استجابة من قبل الحكومة وأهل الخير ، فجرى تشييد العدد من المؤسسات الصحية التي عنيت بمعالجة مرض التدرن الرئوي كما سبقت الإشارة لذلك.
وشقَّ مرض التدرن الرئوي طريقه في صفوف الجيش العراقي حينذاك ، عن طريق المكلفين المساقين لأداء الخدمة العسكرية بموجب قانون خدمة العلم، وعن طريق الأشخاص المتقدمين للتطوع على الملاك الدائم ، فبالاستناد إلى معلومات أوردها أحد أخصائي الأمراض الصدرية في الجيش العراقي ، أن فحصاً طبياً أُجري في المدة الواقعة بين 13 أيلول 1958 و 10 تشرين الأول 1958 على أفراد فوج بغداد للتدريب العسكري البالغ عددهم (4237) جندياً كان (244) منهم مصابين بالتدرن الرئوي. ولم يكن الجيش العراقي آنذاك يملك مؤسسة صحية متخصصة بعلاج حالات التدرن، وتتم معالجة المصابين من منتسبيه بإرسالهم إلى وحدة الأمراض الصدرية في مستشفى الرشيد العسكري، التي كانت تستقبل يومياً أربعة عسكريين لغرض إدخالهم المستشفى وأغلبها حالات تدرن رئوي متقدم بينما لم تزد عدد الأسرة المخصصة لاستقبال المرضى في الوحدة عن (80) سريراً في أحسن الأحوال ، وقد نجم عن هذا الأمر أن أصبحت مدة بقاء العسكري المصاب بالتدرن الرئوي غير كافية لإيقاف حدة المرض، لذلك كانت تضطر إدارة المستشفى إلى إخراج المرضى القدامى قبل اكتسابهم درجة الشفاء التام من أجل إفساح المجال للمرضى الجدد ، وهذا يعني استمرار دورة المرض ، فالمريض غير المكتسب لدرجة الشفاء التام تكون قابليته على نقل العدوى إلى أسرته والمجتمع عالية . ينطبق الشيء نفسه على المرضى المرسلين إلى مصح بحنس في لبنان، فضلاً عن معاناتهم من سوء المعالجة ، فإن إدارة المصح كانت بين حين وآخر تسفر عدداً من المسلولين من المصح إلى العراق من دون اكتمال هؤلاء لدرجة الشفاء التام ، وقد أثار هذا الأمر غضبهم ، فطالبوا الحكومة ومجلس النواب التدخل لمساعدتهم على البقاء في المصح لحين اكتسابهم درجة الشفاء التام. كما أن نظام تداوي التدرن الرئوي كان يعتمد على عزل المرضى واعطائهم العلاج بمدد زمنية طويلة مما دفع الكثير من المرضى الفقراء الذين اعتمدوا في معيشتهم على الكسب اليومي لتأمين قوتهم للهرب من المستشفيات وقطع العلاج ، مما سبب ازدياد نسبة المرضى الذين بقوا يحملون العدوى إلى أكثر من (60%) .
أثير هذا الأمر داخل أروقة مجلس النواب ، فطالب نائب بغداد توفيق المختار وزير الصحة التدخل لتدارك الأمر ، وقال: " أن هؤلاء المسلولون المنتشرون في المقاهي العامة وفي بيوتهم أصبحوا خطراً يهدد صحة العراقيين ". وفي السياق نفسه ، طالب نائب الديوانية موجد الشعلان ان يحجز "المسلولون المنتشرون في الآوتيلات وفي المحلات العامة " .
شكل عام 1952 منعطفاً تاريخياً في تاريخ كفاح العراقيين ضد مرض التدرن الرئوي في العراق ، وفتح باباً من الأمل أمام الملايين من العراقيين لاتقاء شر هذا الداء الوبيل .ففي ذلك العام بدأ لأول مرة تطبيق مشروع التلقيح بلقاح الـ (بي . سي. جي)، عملاً بأحكام الاتفاقية التكميلية الثالثة ، كما سبق ذكرها ، وحددت مدة المشروع بعامين من أجل تلقيح نحو (800) ألف طفل ويافع ، ونفذت عمليات التلقيح الفرقة الصحية الدولية التي أرسلتها منظمة الصحة العالمية تنفيذاً لالتزاماتها بالاتفاقية المذكورة، والفرق الصحية العراقية التي دربت على يد الفرقة الصحية الدولية . وجهز صندوق الطوارئ الدولي " اليونسيف " المشروع باللقاحات ومحلول التبويركلين المخفف، فضلاً عن اللوازم والتجهيزات الأخرى طبقاً لالتزاماته المنصوص عليها في الاتفاقية التكميلية الثالثة.
اقتصر عمل الفرقة الصحية الدولية والفرق الصحية العراقية في العام الأول على مدينة بغداد وخصوصاً في مدارس المدينة ، وفي العام 1952 توسع عمل الفرق الصحية ليشمل مناطق واسعة من البلاد التي أمكن الوصول إليها ، وقد أجرت الفرق الصحية في أثناء عملها الفحوصات المختبرية حتى نهاية شهر كانون الأول من العام نفسه على (343815) طفلاً ويافعاً لقح منهم (136306) أطفال ويافعين.
ومما يذكر ان الملقحين واجهوا أثناء أداء أعمالهم عند البدء بتنفيذ المشروع صعوبات كثيرة من بينها امتناع عدد غير قليل من الناس تلقيح أبنائهم بسبب سريان اشاعة في مدينة بغداد سربها أحد الأطباء المختصين بالأمراض الصدرية من غير الرسميين ، مفادها أن اللقاح الجديد ليس إلا (سم) ، مما أثار هلع الناس وخوفهم على أرواح أبنائهم إلا ان أثر هذه الإشاعة سرعان ما تلاشى بعد ان أدرك الناس كذبها.
أن لواء بغداد كان يضم أكبر عدد من الإصابات بمرض التدرن الرئوي ، إذ بلغ عددها في غضون تلك المدة (35196) لأن بغداد الأكثر اكتظاظاً بالسكان من ناحية، ولزيادة الهجرة إليها من مناطق ريفية من ناحية أخرى، في حين جاء لواء كربلاء بالمرتبة الثانية لكثرة زوار العتبات المقدسة، وعدم فحص الزائرين قبل السماح لهم بدخول العراق مما يسمح بتسرب المرض وانتقاله على أوسع نطاق، إذ كان عدد الإصابات المسجلة بهذا المرض فيه (11755) إصابة، وجاءت الموصل بعدهما، إذ بلغ عدد الإصابات المسجلة فيها (7828) إصابة . وكانت ألوية المنتفك و ديالى أقل الألوية في الإصابة بمرض التدرن الرئوي، إذ بلغ عدد الإصابات المسجلة فيهما بالتوالي (531) في ديالى، و (590) إصابة في المنتفك.
عن: رسالة (االأوضاع الصحية في العراق 1945- 1958 دراسة تاريخية)