مع جواد سليم في نصب الحرية

مع جواد سليم في نصب الحرية

بلقيس شرارة
طلب رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم من رفعة تصميم ثلاثة أنصبة، الجندي المجهول، نصب 14 تموز و نصب الحرية. زرنا جواد – رفعة و أنا- في داره في المساء بعد ثورة 14 تموز بأشهر، وحدثه رفعة عن مشروع نصب 14 تموز، و قدم له رفعة قاعدة لبناء ضخم تشبه اللافتات التي كانت ترفع في التظاهرات آنذاك، على أن يملأها بالجداريات أو النحت النافر. أما بالنسبة للجندي المجهول فقد صممه رفعة بأقل من ساعتين.

كُلف رفعة آنذاك من قبل عبد الكريم قاسم بتصميم ثلاثة أنصبة في بغداد - كما ذكرت سابقاً.
عرض رفعة قاعدة نصب 14 تموز التي طولها 52 مترا و عرضها 6 أمتار، في ان يملأها جواد بالتماثيل. تحمس جواد للفكرة، قائلا له: لم يقام نصب في العراق بهذا الحجم منذ العصر الآشوري. و بدأ جواد برسم التخطيطات الأولية. ثم سافر بصحبة عائلته إلى إيطاليا لإنجاز النصب، و قضى ما يقارب السنتين حتى أكمل المشروع.
و عندما أوشك جواد على صب تصميم الجدارية بالبرونز، تناهي إلى سمعه أن رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، يرغب في أن تتجلى إنجازاته الثورية في هذا النصب. يعنى بذلك أن صورته كقائد للثورة تصبح بارزة في النصب.
و ربما راجع النحات خالد الرحال مقر عبد الكريم قاسم و أخبرهم أن جواد لم يصمم صورة "الزعيم" في النصب ، وبأنه مستعد أن يصلح هذا النقص، وأوصل هذه المعلومات إلى السفارة العراقية في روما، التي لا تقل سلبية اتجاهه.
فسافر رفعة إلى فلورنس للتأكيد لجواد في الاستمرار بعمله. عانى جواد في تلك المدة من حالة نفسية عصيبة، أدت به إلى دخول المستشفى للأمراض العصبية. كنت بصحبة رفعة و زوجته لورنا و النحات محمد غني، عندما زرنا جواد في المستشفى في فلورنسا، شعر بعدم الارتياح في البداية عندما شاهدنا، كان مرتدياً بيجامة بيضاء مقلمة بخطوط، و سترة بلا أزرار، و لذا كان يلف جانبيها بيده، و القلق باد على تقاسيم وجهه، لكنه ارتاح عندما طلب منه رفعة أن يرتدي ملابسه و يخرج معنا من المستشفى.
أكد رفعة لجواد أن طلب صورة الزعيم في النصب هي محض شائعات لا أساس لها، و بذاك زال القلق الذي كان يعاني منه في تلك الفترة. كانت تلك مبادرة أتخذها رفعة على عاتقه كرئيس للجنة نصب 14 تموز، و تحّمل بذلك المسؤولية التي تترتب عليها. فعبد الكريم قاسم كان يرغب في تسجيل ما أنجز في عهده من الإطاحة بالعهد الملكي في نصب ضخم. فمنذ بداية التاريخ سجل الحاكم سيرة حياته على الحجر، و واصل تلك المحاولة خلال العصور التي مرت عليه في تسجيل حياته لحفظها من الضياع، و لم يسجل "الزعيم" إنجازاته في بناء مباني فخمة أو قصور لنفسه، بل رفض الانتقال و العيش في القصر الملكي الذي أنجز في عهده، و ظل مقيماً في وزارة الدفاع، و لكنه أصر على رفعة قبل أن يذهب إلى إيطاليا في أن يكون نصب 14 تموز، نصب يمثل ثورة 14 تموز في العصر الحاضر!
عاد جواد إلى بغداد في نهاية العام، و بدأت ورشة العمل في باب الشرقي، و أحيطت بنوع من السرية، لكي لا يصل خبر إلى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، أن الجدارية تخلو من صورته. و ما أكثر المتبرعين في هذا المجال، من أمثال خالد الرحال إلى السفارة العراقية في روما.
و اعتبرها رفعة موقع العمل كـ "منطقة عسكرية" لا يسمح لأحد دخول الساحة من غير موافقة من الجهات المعنية. كان يغطى كل تمثال يوضع في المكان المخصص له حالاً بقماش الخيش. و لعب عبد الأمير النجار دوراً مهماً في ذلك الترتيب، فقد كانوا يعملون لساعة متأخرة من النهار، في سباق مع الزمن، كنت أرافق رفعة أحياناً إلى موقع العمل، و لم يكن يشعر بارتياح من الشائعات التي كانت تدور في بغداد حول النصب، و كان جواد مواظباً في تلك الفترة على التواجد في موقع العمل، و لكن الإرهاق و القلق اللذين استبدا به سببت له نوبة قلبية مفاجئة!
ذهبتُ في اليوم التالي مع رفعة إلى المستشفى، كان جواد شاحب اللون، لا قدرة له على الكلام، في داخل خيمة من الأوكسجين، وقفنا إلى جانبه، حتى و هو في تلك الحالة من المرض، كان يفكر بنصب 14 تموز، و يقول له رفعة: كل شيء سائر حسب الخطة التي وضعناها معاً، و المهم أن تتحسن صحتك و تخرج من المستشفى. ثم أصيب بنوبة ثانية في المستشفى أدت إلى وفاته بعد عشرة أيام في 20 كانون الثاني عام 1961.
شارك رفعة في تشيع الجنازة، إلى جانب عدد كبير من الفنانين و الأصدقاء، الذين خيم عليهم الألم و الحزن، على جواد الذي اختطفه الموت من بينهم و هو في عنفوان حياته و في أوج إبداعه الفني، إذ كان يبلغ من العمر الثانية و الأربعين. كان الشعلة التي أنارت الطريق للفنانين العراقيين، و برحيله فقد العراق و العالم العربي فناناً من الطراز الأول، و كان لفقدانه تأثير على اتجاه الحركة الفنية في العراق فقد كان لولبها الدائم في الخلق و الإبداع و الابتكار، ينتهل من التراث و يصهره بمفاهيم حديثة.
عاد رفعة ذلك اليوم إلى الدار حزيناً، لفقدانه صديق فكر عزيز عليه، و كأن عضو قد بتر من جسده، فقد كان يعتقد أن الحركة الفنية ستتعثر بعد فقدان جواد.
عن: كتاب (هكذا مرت الايام) الصادر عن دار المدى