الدين والثورة عند الأب إرنستو كاردينال

الدين والثورة عند الأب إرنستو كاردينال

محمد بلال أشمل
نشرت "مارغريت راندال" كتابا هاما في "نيكاراغوا" سمته "مسيحيون في الثورة". ويتضمن مجموعة من الشهادات كانت في الأصل، إجابة على أسئلة كثيرة من سائرها هاذان السؤالان:
ماذا كانت تعني التجمعات? المسيحية القاعدية في تاريخ كفاح "نيكاراغوا"؟
من هو المسيحي الثوري الذي ظهر? في سياق التجربة النيكاراغوية؟

وقد نقلت "مارغريت راندال" أصوات كل من الأب "إرنستو كاردينال" Ernesto Cardenal الذي شغل منصب وزير الثقافة في الحكومة الثورية بـ"نيكاراغوا"، حاصل على نوبل للآداب، ومؤلف كتاب "أنوار الثورة" وصوت "أورييل مولينا" Uriel Molina مدير المركز اللاهوتي "أنطونيو فالديفيزو" A. Valdivieso و "فيرناندو كاردينال" Fernando Cardenal -شقيق إرنستو- عضو اللجنة التنفيذية الوطنية للشبيبة الساندينية تاسع عشر يوليو، و "لويس كاريون" Luis Carri?n من ضباط الثورة ونائب وزير الداخلية، وأصوات أخرى تعكس تاريخ دخول المسيحيين في تجمعات شعبية ناضلت حتى النهاية ضد الديكتاتورية السوموزية في "نيكاراغوا". وشهادة الأب "كاردينال" كانت بالأساس حول تجربته في تلك التجمعات المسيحية القاعدية طيلة عشر سنين من 1966 إلى 1977 في "سولينتينامي" وهي أرخبيل يتألف من ثمان وثلاثين جزيرة صغيرة في البحيرة الكبيرة لـ"نيكاراغوا" في أمريكا اللاتينية قرب "كوستاريكا". وقد احتضنت "سولينتينامي" تجربة ثرية لتلك الحركة الفريدة، حركة المسيحيين في النضال الثوري لـ"نيكاراغوا". انطلاقا من هذه الشهادات، سنحاول رصد تصور الأب "كاردينال" عن الدين والثورة في التجربة المسيحية، وفي السياق الأمريكولاتيني.
يصف "إنريك دوسيل" E.Dussel "لاهوت التحرير" بـ"الخطاب النقدي" الذي يطرح الأسئلة التقليدية، كالخطيئة والخلاص والكنيسة ودراسة المسيح والأسرار المقدسة… على "صعيد ملموس ومناسب"؛ "غير ناكر المجرد(الخطيئة في ذاتها) بل واضعا إياه في شروط الواقع التاريخي الملموس (خطايا التبعية). مثال على تلك الأسئلة التقليدية والمجردة، مسألة الجزاء النهائي؛ فالجزاء النهائي حسب الأب "كاردينال"، لن يكون بعد الموت، بل سيكون في الأرض بعدما ستنتهي كل مظاهر الاستغلال. وقد اكتشف الأب "كاردينال" وصحبه هذه المسألة في "رؤى يوحنا". ويتعلق الأمر بنهاية المجتمع الغير العادل، وبداية المجتمع الجديد.
وهكذا يضع الأب المذكور مسألة مجردة، كمسألة الجزاء النهائي، على محك الملموس، ويراها في المحسوس، ويضعها في العالم وعلى الأرض. وذات الشيء يصنعه مع الله؛ فهو لا يراه في التعالي، ولا في المفارقة، ولكنه يراه في المحايثة والحلول.إن الله حسب الأب "كاردينال" خلق كل شيء، وهو بكيفية ما، منغمر في خلقه وليس بريئا عنه. ولأنه يعتبر نفسه "ماركسيا"، فهو يرى أن الله قوة التحولات الاجتماعية، وقوة الثورات. بل ويعتبره قوة الحب أيضا، وإن كان يعترف أن هذا هو التصور الإنجيلي لله (ص93).وعلى الجملة، نرى أن تصور الأب "كاردينال" للجزاء النهائي ولله ،وهما ما يشكلا حجر الأساس للدين عامة، تصور أنثروبولوجي ثوري يذكرنا بالأطروحة الأولى لـ"فويرباخ" التي تقول "إن سر اللاهوت هو الأنثروبولوجيا".
هذا التصور الأنثروبولوجي الثوري للدين، حيث يتم النظر إلى عناصره مثل الجزاء النهائي والذات الإلهية في تجليهما المحسوس على الأرض، يرافق الأب "كاردينال" في تصوره للكنيسة. فإذا كانت الكنيسة جسدا للمسيح كما يراها المجمع الفاتيكاني الثاني، فالكنيسة الحقيقية في نظر الأب "كاردينال"، أي كنيسة المسيح، هي كنيسة الفقراء. ولهذا يعتقد الأب الثوري أن الكنيسة ستشهد انقساما في المستقبل سيكون مداره انقسام صراع طبقي سيفصل كنيسة الفقراء عن كنيسة الأغنياء. وبما أن نيكاراغوا شكلت نموذج مشاركة المسيحيين في الثورة، يعتقد الأب المذكور أنها ستكون أول مكان يشهد ذلك الانقسام. ويعلل ذلك بوجود قطاع رجعي إلى جانب المسيحيين الذين شاركوا في الثورة. وكسائر الثورات، يرى الأب "كاردينال" أن هذا القطاع الرجعي سيصطدم مرة بعد أخرى، بالثورة وبالشعب المسيحي الثوري، وبرجال الدين والرهبان المنحازين إلى جانب الثورة؛ مما سيولد صراعا مريرا، لن يكون بين الحكومة والكنيسة فحسب، بل داخل الكنيسة ذاتها (ص97). ويرى الأب "كاردينال" أن الانقسام الذي ستشهده الكنيسة نتيجة لهذا الصراع الداخلي، لن يكون انقساما لاهوتيا عقائديا؛ كما حدث في الغرب ولا كما حدث بين الكاثوليك والبروتيستانت، ولا قطيعة مع البابا وسلطته، بأسباب مثل أسباب الانشقاق أو بأسباب عقائدية كما فعل لوثر"، بل سيكون انقساما سياسيا. ومن ثم فالرهان رهان سياسي لا علاقة له باللاهوت ولا بالإخلاص لسلطة روما. ومع ذلك ينفي الأب "كاردينال" أنه سينشئ وصحبه كنيسة أخرى أو كنيسة شعبية (ص98). إن الكنيسة الحقيقية في نظره هي كنيسة الفقراء، وتمثل هذه الحقيقة خلاصة النظر الثوري المتبصر في المتن الإنجيلي، فالمسيح جاء كارزا للفقراء، ومبشرا بملكوت الله للجياع والباكين (لوقا 6 : 20-21) ومتوعدا الأغنياء والشباعى (لوقا 6 : 35-36). وحينما ينحاز الأب "كاردينال" إلى الفقراء، يكون رجل دين ثوري بامتياز، يوجد في جبهة متقدمة من لاهوت التحرير الذي يناضل من أجل قضايا التنمية والتقدم والتحرر…
هذا الموقع الذي يوجد فيه الأب "كاردينال"، جعل "فيديل كاسترو"F. Castro (1927-) يقدمه إلى ثلة من الجامعيين على أنه رجل دين ماركسي. ويوضح الأب "كاردينال" المسألة قائلا: " في الحقيقة بدأ شباب تجمعنا في سولينتينامي وباقي الفلاحين المجاورين لنا يصيرون ثوارا، فقد مضينا نجري حلقات الدرس حول الماركسية. قرأنا كثيرا لـ"ماو" Mao Zedong (1893-1976) وكل خطب " كاسترو" التي توفرت لنا. وشيئا فشيئا بدأنا نحوز على قاسم مشترك مع الجبهة الساندينية، وراح الشبان يغادرون التجمع ويريدون اللحاق بجبهة القتال" (ص52).ويحكي الأب المذكور أنه بعد لقاءات متعددة مع الأب "أورييل مولينا" U.Molina وبعض قياديي الجبهة الساندينية، بدأ رجال الدين يتحولون إلى رجال دين تقدميين (ص56). وقد التقى الأب "كاردينال" في التشيلي مع كثير من رجال الدين الماركسيين (ص57). وهكذا رأى بأم عينيه ذلك التحالف الذي طالما دعا إليه "كاميلو توريز" بين المسيحيين والماركسيين(ص58). ويحكي الأب الثائر أنه لما زار كوبا للمرة الثانية عام 1971، تحادث طويلا مع "كاسترو" حول إشكالية المسيحية والثورة والمسيحية والماركسية. وفي تصريحات بماناغوا، اعتبرت فضيحة في حينها، أعلن الأب "كاردينال" أنه "اشتراكي" لا "ماركسي" (ص57).
غير أنه لما عاد من كوبا، مضى يدافع عن الثورة الماركسية، ولو أنه لم يعلن نفسه كماركسي؛ لأن حركة لاهوت التحرير لم تكن قد ظهرت بعد في نيكاراغوا. ويرد الأب الثائر عدم انضمامه إلى مجموعة "الإحدى عشر" التي كانت تقود حملة دعائية لصالح الجبهة الساندينية في الخارج، وبعد ذلك في الداخل، لكونه كان يعلن نفسه "ماركسيا جدا" والحال أن المسألة كانت تقوم على تحاشي العدوان الأمريكي في حال تكون مجموعة فيها عضو ماركسي (ص59). ولو أردنا تأصيل ماركسية الأب "كاردينال" لقلنا إنها تكمن في تلك المقارنة التي يجريها بين السيد المسيح وماركس؛ ففي نظره جاء السيد المسيح ليقول لنا إن المملكة الكاملة جاءت معه، وهذا في نظره ذات ما عبر عنه ماركسMarx (1818-1883) بالشيوعية الكاملة (ص93). فلا عجب إذن أن يكتشف رجال الدين من لاهوتيي التحرير أنه بإمكانهم أن يكونوا ماركسيين ومسيحيين في نفس الوقت (ص99).
هذا التحالف بين المسيحيين والماركسيين؛ الذي يؤمن به الأب "كاردينال"، وعمل على هديه طيلة سنوات النضال الوطني إلى تسلم الجبهة الساندينية الحكم في "نيكاراغوا"، أعطاه اليقين بانتصار الثورة في كل مكان من الأرض (ص97).غير أن هذه الثورة تأخذ لديه معنى خاصا ويؤطرها ضمن إطار الوحدة، وينفي عنها شبح الاختلاف. يقول الأب "كاردينال" عن الثورة والوحدة: " لا ينبغي لنا أن نثور كما ثار مثلا سافونارولاSavonarola (1452-1498) ، أو مارتن لوثر في الماضي، لأن الأمر الآن يتعلق بالوحدة مع من كان يطلق عليهم منشقو الكنيسة الأرثوذكسية"، وليس بين المسيحيين والكاثوليك والبروتيستانت. بل إن الأب الثائر يوسع دائرة الوحدة فيدخل فيها حتى باقي الديانات لأن المناخ في نظره الآن ليس مناخ خلافات جديدة (ص98). وبالفعل ففي اختتام أحد اللقاءات الثقافية بكوبا، تحدث الأب "كاردينال" عن الوحدة والثورة كما تحدث عن مشاركة المسيحيين والمسلمين في الثورة، واندماج الثوريين المسلمين والمسيحيين والبوذيين في الماركسية (ص98-99).
موقف الأب "إرنستو كاردينال" من الدين وكنيسة الفقراء والماركسية والثورة موقف متجانس يحكمه تصور ثوري متقدم في جبهة "لاهوت التحرير" بأمريكا اللاتينية، يريد تأسيس ملكوت الله فوق الثرى اعتبارا أن الدين ثورة والثورة دين العصر.
عن: الحوار المتمدن