سهيل سامي نادر في روايته الفريدة التل..حصار الكآبة الوطنية والتوازن مع الرعب

سهيل سامي نادر في روايته الفريدة التل..حصار الكآبة الوطنية والتوازن مع الرعب

بندر عبد الحميد
عاش الناقد الفني سهيل سامي نادر في بغداد سنوات عصيبة كان فيها سجيناً من دون قفص – كما تقول الكاتبة دُنى غالي – فهو محاصر بالكآبة الوطنية ومنشغل بالتوازن مع الرعب، يلوذ بالقلم والورق لفتح نافذة في الجدار المعتم للتنفس والتواصل مع العوالم المضيئة، ومن هنا طلعت روايته الفريدة "التل" عن دار المدى.

تجري الرواية على لسان الكاتب - الراوي، وتبدأ بفعل اقتحام، هو جزء من أشكال الاقتحامات التي يمارسها هو، الرجل الخمسيني الذي يقود بعثة أثرية محلية، في مهمة صعبة، للكشف عن "تل الزعلان" في أطراف الصحراء، ومعه نماذج بشرية مختلفة في الوعي والإيقاع والمزاج، ثم الاقتحامات التي يصدها ويحتويها أو يغيّر مسارها، وهو ينسرب ويختفي من بين كماشات السلطة والتاريخ والعائلة والعمل وينفصل عما حوله، أو ينفصل عن جسمه، ليسبح في ما يشبه منطقة انعدام الوزن، يدحرج أفكاراً ثقيلة، يخيف بها نفسه ويظل مطارداً مستقراً، بين الضغوط المعلنة والخفية، الضغوط الشخصية والعامة التي تحاصر حركة الحياة في الشارع، وحركة التنفس في البيت أو في موقع العمل، وتفتح دروباً طويلة، ضيقة وشائكة، تتصل بمتاهات ملتوية في آخر العالم، وفي حالات الضغط الشديد، تلمع في ذاكرته صورة امرأة عبرت في حياته مرة، واختفت، إنها سميرة التي منحته أحلام حب مستحيل، وأخذت شكل أيقونة حميمة معلقة في ذاكرته.
وهو في مواجهة هذه الضغوط يخترع ألعابه الخاصة، كي يستطيع أن يتوازن: "في تلك الأيام توصلت إلى ألعاب تقنية مثيرة.." وربما كانت هذه الرواية هي إحدى ألعابه المثيرة التي أخذت طريقها إلى المزاوجة بين ذبذبات حياته اليومية، والشخصية والعملية والإدارية، بينما اضطربت حياته العائلية، وأصبح وحيداً فريداً، بعد انفصاله عن مطلقته الذكية الجميلة المكابرة، فاتن التي تلوذ بالصمت طويلاً، قبل أن تباغته برسالة مربكة، ملغزة، منسوجة جيداً، أو تقتحم عزلته باتصال هاتفي في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل: "تخيلتها تجلس في الظلام، كنت أسمع شيئاً من صوت الظلام يدخل السماعة، وتصورت أنها سحبت خطاً إلى غرفتها"..
رسائل وحوارات تأخذ شكل المناورات المرسومة بدقة، فهي تخترع ألعابها أيضاً، بينما يظل المحور الأول في حواراتهما المتقطعة، في الرسائل والاتصالات، منصباً حول ابنتهما، ليلى، طالبة الطب التي تعيش مع أمها، وتزور أباها، الذي يتعامل معها كصديقة واعية تستطيع أن تدير أمورها بوعي وذكاء، وتحافظ على توازنها في علاقتها مع القطبين المتنافرين، وتمنح أباها مزيداً من الثقة بنفسه وبها، مع أن مطلقته فاتن تتهمه بالتقصير وتستفزه بعبارات مكثفة مثل: "أنت لا تكبر"، وهو يتلقى الصدمات من اتجاهات مختلفة، وحينما يوشك أن ينهار ينتفض فجأة، ويبحث عن لعبة جديدة، أو ينسحب إلى حديقة بيته، ليحفر بعيداً عن "تل الزعلان"، هذا التل المخادع الصامت، الملتبس العنيد، قد يكون اسمه مشتقاً من ملامحه وإيحاءاته، ولا يكفي تجميع المعلومات عنه، وإنما تجميع الشكوك والافتراضات أيضاً.
تدور حوارات أخرى بين الراوي وزملائه في موقع العمل قرب التل عن جدوى الاستمرار في مناطحة هذا التل، وعن جدوى نبش التاريخ، ومعنى الموت والحياة، وعن مصائرهم الشخصية، ثم هل يستطيع أي اكتشاف في جوف هذا التل أن يغيّر ما هو ثابت ومكتوب في تاريخ هذه المنطقة، وماذا يعني ذلك؟
ثمة أسرار كثيرة لا نعرفها عن الماضي، أسرار دفينة في التلال وبين خرائب المدن القديمة، وهذا التل يحمل شيئاً منها في خاصرته أو عجيزته المكتنزة، ولابد من تنويع زوايا الحفر في تكويناته المحيرة.
وتثير الاكتشافات متعة احتفالية لدى المنقبين، حتى لو كانت ثلاثة مسامير صدئة لباب متآكل، أو شكل تمثال يأخذ اسم تمثال "المفكر" لرودان، أو شبه جملة مكتوبة على الآجر، معطوفة على جملة ضائعة في ركام التراب، أو مخطوط متهالك يوحي بأنه كتاب "البيان والتبيين" ولكنه ليس هو، لأن تل الزعلان يوحي بثلاثة احتمالات: مدرسة، أو معسكر ومربط خيل، أو مارستان، كما افترض أحدهم.
إن المزاوجة بين الموضوعات المختلفة، مع خطورتها، أعطت للمؤلف حرية في التداعيات والانتقالات السريعة من موضوع إلى آخر، بما يكفي لتقديم لوحات جدارية غنية بالتفاصيل، والنكهة العراقية اللاذعة، في دراسة الطبائع، من زوايا متعددة، صب فيها الكثير من الجهد، في قراءة الشخصيات، بمن فيها هو نفسه، من خلال اعترافاته وشطحاته، والكشف عن نزعاته الخفية وارتكاساته، وتجربته الفنية والفكرية والحياتية والعاطفية، صعوداً وهبوطاً، بأسلوب متوثب، يتكئ على الجملة المكثفة والتقطيع الفني الذي يلتقي مع المونتاج السينمائي لفيلم يبحث عن مخرج وممثلين يعرفون سهيل سامي نادر في تحولاته الخفية والمعلنة.