عند تخوم التل الروائي البحث في الزمن عن رواة حقيقيين

عند تخوم التل الروائي البحث في الزمن عن رواة حقيقيين

اسماعيل ابراهيم عبد
في رواية (التل) للروائي سهيل سامي نادر ، البحث في الصحراء عن أرث وآثار .. البحث بين الناس عن أصدقاء ..البحث في الذاكرة عن علائم إنثوية ..البحث بين الأصوات عن أنغام حيية لحبيبة .. البحث في التأريخ عن أبطال من البسطاء في زمن الملوك .. البحث في الروائح عن مرافيءإنتعاش الأنفاس .. البحث في الزمن عن رواة حقيقيين ..

الرواية تشكيل دراسي يأخذ بالبحث الفكري ، بعلميّة تشبه الرسائل الجامعيّة ، وتأخذ بالحث عن الآثار بمثل ما يفعله فنيّو دائرة الآثار العامة في العراق . لكن الأهم هو البحث عن علائق الأمن والأمومة والإنبساط ، والمنزليّة ، والعاطفة الناضجة بوعي ثقافي دافق ، وتمكين الفعل الرفيع من الإستمرار بالنشاط والجديّة والدقة والجودة ورغبة الكشف والإكتشاف ، وتكثيف الأفكار ـ إفتراضا ـ وعدا هذا هي نموذج ثقافي تصح فيه التطبيقات النقدية لما بعد إنشائية التداول .. لنجتهد طريقا للمنازعة القرائية في :
أولا / تقانات التدبر الفنيالنص الروائي كإشتغال إنشائي يتوفر على تقانات لغوية لجوهر النظم الإبلاغية .التقانات تدبير قصدي في غاياته ، له مبرراته كحساب ذهني وأدواتي .. هذا التدبير ينماز بملاحقته للوصال القائم بين المظهر (السبغي) والتأويلي للمضمر ، بإشتغال سردي ، مؤكد للمعنى المرتهن الى النسيج النهائي لقيمة الروي .. لننظر : ( تفشل تجارب الغرف المغلقة وتنجح خبطة قوية على الرأس .يحتاج المرء الى أن يُلذع بعد سهو ، فليس من مخبر حقيقي غير الخريف الطلق ، وكان في هذه اللحظة يستعرض في الحديقة إحتماليته الغريبة وتعارضاته الطبيعية . كنتُ أعرف في الماضي متى يبدأ ، فرحلاتي الساحرة تبدأ معه ، وكان هو من علّمني التنقيب الحي. لدي صور خيالية عن هذا الفصل ماثلتُها بحياتي الشخصية وصدّقتها عبر إنكساراتي وهزائمي،صورة باب ينفتح على جهتين لا تعرف أهي جهة دخول أم جهة خروج . ــ رواية التل ، ص102 ]ضمن إطار السرد تشاد علائق عديدة منها :
1ـ اللغوية / تتصف بأولوية للجمل الفعلية للدلالة على سرعة الأحداث وكثرتها ، فالفعال 16 ستة عشر فعلا في مقطع من 58 كلمة ، بمعنى أن كل (فعل = حدث) يسحب لنفسه ما يقرب من(4) كلمات . وبإضافة الحروف ذات الدلالة على الإستمرار والتوقف ، ثم معها الفوارز والنقط ، كأن الجملة الفعلية تصير من (6) كلمات = 6 أفكار .. لهذا الإشتغال نتيجة مباشرة هي الكثافة السردية ، ونتيجة غير مباشرة هي الكثافة التأويلية .. هذه الكثافة تغني التعقيد البلاغي والقواعدي وتساعد على الإختزال والتضمير والثراء الإشاري .
2ـ الثقافية / تتبنى الرواية ثقافية القول للمعطيات الفلسفية ذوات الحكمة والحذق والإقناع . . وتعطي للإسلوب صراحة الفصاحة وسهولة الإيصال وعلو المنطق الذي ينماز به حكي وقول وسرد وتفكيرالمثقفين .. كما أنه يلوّن الزخرفة القولية بالمفارقات مثل الفشل بمقابل النجاح ، والتجربة بمقابل الخبطة … النص على قلّة كلماته ومختزلات جمله يعطي فكرة زمنية جديدة ، مهملة ، تلك هي ، أن الخريف في العراق هو أجمل من الربيع مناخيا وفيه تنمو الأشجار مجددا وتعطي الزهر والثمر ، هذه الفكرة إضافة ثقافية من قبل الروائي سهيل سامي نادر ، في روايته التل .
والفكرة الأخرى هي ( أن الراوي يجد ربيع حياته في أواخرها وليس كما يشاع بأن ربيع العمر هو سن الشباب . لأن أواخر الحياة (الشيخوخة) هي العطاء الأعلى في الكثرة والجودة والتفرد . 3ـ الكشف عن المجهول المعرفي / الروي كتقانة سردية يأخذ ، بعد اللغة والحدث ، بالمعلومة المعرفية ، وهي هنا تتسم بالإتجاهات :أ ـ التعطيل المؤقت للفهم : حيث يجعل الراوي باب الفهم مواربا بالمجهول لما يخص الفشل والنجاح ، أي دون مسببات ، أو ظروف إقناع ، ودونما نتائج .ب ـ إضافة المعلومات : تتأتى معلماتية العمل الروائي من قلب المسلمات الجغرافية وإكتشاف معلومات بديلة ، وكذلك في وضع شروط جديدة للبحث التجريبي بجعل التنقيب (موضوع البحث) حرا ليصير حيويا متماهيا مع البيئة المراد التنقيب فيها ، وليس التنقيب محددا بنتائج وفروض مسبقة .
4ـ التركيب الصوري / أراه ممثلا في صور :
الخبط على الرأس / في هذه الصورة تفاني وإلزام بقيم الإخلاص للفكرة بحيث تصير منبها مثل الضربة على الرأس التي تزرع الوعي المتكاثر في العقل .
اللذع والسهو / هما نقيضان متلازمان في حالة ورودهما كأفكار للنباهة والتذكر، فالضربة السابقة تلتها لذعة تلغي الكسل والرخاوة العقلية والغفوة عن الكشف .
التعارضات / أنماط من جماليات وسحر الخريف من النواحي الطبيعية والنفسية .إضافة الى التقلب والمزاجية للطبيعة والبشر.
المعرفة والرحيل / صيّرهما الروائي حالين يوافقان حيوية الأعمال والأفكار .
التماثل / الصور البؤرية التي أرادها الكاتب ممولة للشده والجمال والسحر والكشف المعرفي والحسي في روحية الطبيعة .
الإنفتاح والصدق / هما الإكمالان الأخيران جاءا على صورة حيرة عقلية تجعل باب العرف والمعرفة مفتوحين على الإحالات التفسيرية والتحليلية للترف الفكري والبحث الكشفي . الصدق مماثل لحقيقة الإنكسار والهزيمة ، فالخيبة حقيقة تغور حتى العظم في الذات البشرية لكنها مثل عودة الحياة في خريف العمر .. العمر المديد للعمل الذي سيتآلف مع إنفتاحات الحياة والموت ، الخلود العلمي أو الخفوت الآثاري .ثانيا / الأسر الوجوديالوجود بمعناه الفردي ، وجود ضمن كيان ، فردي ،أُسري ، مجتمعي ، … ثم الوجود بمعناه العلائقي ، وجود المؤانسة والعمل … وهناك الوجود الفلسفي بجانبه الأنطلوجي ، لكن وجود الشخوص في العمل الروائي لرواية التل لسهيل سامي نادر ، يجمع تلك الوجودات جميعا بمطلقية الأسر الوجودي ، كمحصلة وعي نظري وتحليلي لثقافة أسس الوجود ، أصل الوجود كمشكلة حياتية بحثية . لنراقب :[نمتُ بعمق من دون أحلام ولا إضطرابات . وفي الصباح واصلتُ الحياة . كل شيء في الوجود إعتيادي ، ليس ساحرا ولا مخيفا ، كل شيء إعتيادي ، وحدها الغيوم أسعدتني . كنتُ أتحرك في إقتصاديّات معلومة فيها خشية وورع ، سماحة غيرمألوفة ، ومقاومة صريحة لأشباحي المتربصين ، ولا أثرفي وجهي لحماسة أو زمجرة ، هذا ما رأيته في المرآة وأنا أحلق لحيتي .شجرة من نور تفرعت في الغيوم وأضاءت كل شيء لحقتها ضربة واحدة هائلة إهتزت لها الأرض . قلتُ بهمس وأنا أخشى أن أمد إرادة صوتي على الإفتتاح البطولي : أقوى يإلهي !في اللحظة نفسها دفق في صدري المديح العاشر لريلكة مصحوبا بذكرى :يجب علي يوما ما حين أنتهي من هذه الرؤية المفزعة أن أتدفق بالشكر المغبط للملائكة الصاعدة .رأيتني كهذا اليوم أنا وزهير وبرهان نمشي في طريق زراعي حين فاجأنا مطر شديد مصحوب ببَرَد ، فهرولنا وإحتمينا بزريبة خراف .
رواية التل ، ص350، 351 للنموذج النصي المتقدم عدة مسارات تتحكم بهيئة المطلق والعدم والماهية على شكل شخوص تكرر فعلها بلا إنقطاع ولكن لشأن متغيرالنتائج :
1ـ المطلق العدمي للأسر الوجودي ينساب بالنص دخولا وإنتشارا من الكلمة الأولى ـ نمتُ ـ حتى آخر كلمتين ـ زريبة خراف ـ، فيه سلطة العمق والإعتيادية في اللاسحرواللاخوف ، والمقاومة للأشباح ، والمدح والشكر للملائكة بالقولية لريلكة.
2ـ التشبه باللامحسوس ، وهي تقنية تجمع الشاعرية الى الفلسفية في المتناولات التأويلية الآتية / ـ الإستشعار بالغيوم مع الغيوم . ـ التكيف للسماحة غير المألوفة ـ التفرع الذاتي كشجرة النور عند الغيوم .ـ التدفق المعرفي في الصدر وليس العقل . التدفق بالشكر المغبط للملائكة. .
3 ـ المماهاة للوجود ، فقد يعتني القول بالإنسجام بين الماهية وإطارها ، ثم الإطار والنموذج ، ثم النموذج والدلالة ، حيث أن الضرب الهائل ينسجم مع ماهية المبغى في الدعوة للضرب الأقوى .. وإطارها هذا هو إهتزاز الأرض .. وهذا يؤلف نموذجا من شخص أو شخوص هلعين غير خائفين . ولأنهم بلا تعابير ، ليس لهم وجود غير إعتيادي .وأن نتائج هذا التصييغ دلالة مظهر الذكرى الممتدة بالمطر نحو الصداقة وبالصداقة نحو زريبة الخراف . وبالزريبة نحو تشتيت الإرادة (العدم) . ثم أن العدم صار طقسا للجماعة(القائل زهير برهان) . يلاحظ أن تلك الجوانب الإنطلوجية قد تضامنت مع تناصات الأدب الوجودي بشبه حرفية ، لكنها غير رتيبة لأنها مفعمة بالأحداث والمواجهات اللاقصدية ـ مظهريا ـ بين إرادات الشخوص الثلاثة وظروف الزريبة الخاصة .
ثالثا / صناعة الرؤى لرواية التل خاصية في تهيئة وتصميم وتجربة الرؤى ، مسبقا ، بما يوجه العناية الى قصدية التخطيط للعمل . يبين ذلك من ملاحظة الآتي :
ـ التجربة الرعوية / حيث يصف الروائي طبيعة الخراف في تشكيل الدائرة ـ الموقد الطبيعي الحيواني ـ وسط تجمع الخراف .
ـ التجربة الخاصة/ هي تجربة الحلاقة فقد جُعِل الرجل الذي يحلق لحيته يحلّق في العالم الفلسفي ، بسخرية مقصودة .ـ التجربة الثلاثية / تخص الراوي وزهير وبرهان في كونهم جميعا من ذوي الخبرات الواسعة في الحياة والعمل المهني . ـ التجربة الأدبية /تمثلت بالنصوص الشعرية المبثوثة في جسد الروي الوصفي والحكائي . التجربة الثقافية /تتحقق في إجتماع فن الحفر الآثاري مع فنية قراءة الأثر مع فن إستبصار الثقافة الإنسانية للشعر والفلسفة . مضافا الى هذا فن تقنين الأرث ، حيث الصداقة والتصميم والتآخي قيم صائغة ومتصلة بالخلق الروائي والخلق الإجتماعية.
ـ التجربة النصية / والتي هي فنية وفتنة التعوّد على الكتابة قواعد وبنى وجودة وآلية حديثة . ـ التجربة القبائية / فعندما لبس الراوي قناع الأسى جعلنا نتلذذ بأساه كأنه أسانا وشعرنا بلذته الشعرية كأنها لذتنا وإستعذبناغموضة كأنما يفضح خفاءنا.
رابعا / البحث في خارطة الإنوثة
ـ الأب يبحث عن زوجته من خلال إبنته [رجوتها إعداد الشاي … أحسستني مخترقا بنظرتها .. ــ رواية التل ، ص8]ـ البنت تدافع عن زوج المستقبل من خلال المقارنة مع الأب [ ولأنها وصفت زميلها بالرائع .. صرتُ أمازحها .. ــ رواية التل ،ص8] ـ الأم تبيح لنفسها الهناء على حساب الأب والبنت [قالت أعرف أنك لا تريد شيئا هذا قديم جدا وبسسبه ولأسباب أخرى غادرتك .. أنت تعاقبني بطريقة سيئة ـ تقصد من خلال البنت ـ … ليست من طبيعتك . ــ رواية التل ، ص316 ]ـ قائد مجموعة التل يخيف زوجته [ أوه ، لماذا أيتها الشقيقات المفجوعات ، لم أركع بإنعطاف أشد لأستقبلك ، للأُسلم نفسي الى جدائلك المنحلّة .. كانت إمرأتي تصاب بالرجفة حين تقرأ هذه القصيدة ، قالت أنها تخاف منها . ــ رواية التل ، ص351 ]تلك أمثلة ليس إلّا لأن الرواية تعج بمواقف متفرقة من تداخل الشخصي الإنثوي بالعام الوظيفي .خامسا / مخبوءات مخمنة هيمخبوءات لم تسلط عليها إشارات قوية ، كان يمكن لها أن تصير ثوبا وأزرارا للروي منها: 1ـ الفلكلور البدوي المحايث لتفكير عمال تل الزعلان . وهو ذاته المهمل العام من الفلكلور العراقي .2ـ تسامي العرض على عقلية ورؤى عموم ثقافة المجتمع مما جعل فلسفة الروي تضيق على المتسع الشعبي للقراءة مما يعنى تمكن الغلو الثقافي على عملية الإنتاج.
3ـ الفرصة الضائعة من التناص بين مخطوط تل الزعلان ـ البيان والتبيين المقلد ـوما فيه من إضطهاد مع ما يلحق الناس والثقافة من تعسف الطغاة سابقا وحاليا .
رواية التل- سهيل سامي نادر- الشؤون الثقافية العامة- بغداد- 2003