الكاتب.. الأديب.. المؤرخ وتشريفاتي البلاط الملكي!

الكاتب.. الأديب.. المؤرخ وتشريفاتي البلاط الملكي!

د. محمد حسين الزبيدي
صبيحة يوم الجمعة المصادف السابع والعشرين من شهر ايلول 1985 لبى نداء ربه مأسوفا عليه الكاتب والمحقق والأديب المرحوم عبد الرزاق مجيد العلي الهلالي.

لقد كان الفقيد شخصا لا ينسى فقد جمع إلى الخلق الرضي والسماحة المحببة والكرم البصري عمق البحث وسعة العلم وطلاوة الأسلوب والالتفاتات الذكية كل ذلك قد تأتي له من طول مراسة مع الحياة والناس والثقافة والأسفار. لقد ساح الفقيد في دنيا العلم والأبحاث فكتب في الأدب والزراعة والتاريخ والاجتماع والتعليم كما عالج مشاكل الريف في كتاب ضخم ظل حتى اليوم مرجعا للباحثين والدارسين وكان في كل ما يكتب باحثا لا يبدو عليه انه يحسن شيئا غيره غزارة وعمقا وإحاطة بأطراف الموضوع.
وقد بلغ المطبوع من مؤلفاته (23) ولازال عدد من المخطوطات الجاهزة.
كان الهلالي سلسا في معاملته لمعارفه وأصدقائه بأسرهم بحسن حديثه وطلاوة أسلوبه. وابتسامته التي لا تفارقه وكان مالكا لعواطفه في معاملته مع الناس وتجاوبه مع الظروف وقد ظهر ذلك في اوضح صورة خلال ايامه الاخيرة حيث كان يصارع المرض العضال. فلقد كان عائدوه يعجبون من تماسكه وهدوء اعصابه حتى لكانه في احسن حالاته الصحية والنفسية وكان الهلالي حبيبا عزيزا على نفسي.
ومما اذكره من أحاديثه الجميلة وطرائفه التي كان يرويها لنا طريفة حصلت بينه وبين الأمير زيد عندما كان موظفا في التشريفات الملكية في البلاط.
قال:
الأمير زيد بن الحسين رحمه الله هو عم الأمير عبد الإله وعند ما تعينت في التشريفات الملكية كلن سفيرا للعراق في بريطانيا.
وبالنظر لكثرة سفر الامير عبد الاله خارج العراق ولاسيما في موسم الصيف فقد كان ينيب عنه، هيئة نيابة او عمه الامير زيد ولما كنت بحكم عملي في التشريفات الملكية على صلة بهيئة النيابة او به فقد قامت بيننا علاقة طيبة ووقفت على ما كان يتصف به من صفات حميدة، إذ كان رجلا بسيطا صريحا بعيدا عن التكبر والغرور واذا تحدث مع احد حدثه بصوت رقيق خفيض ولي معه مواقف عديدة جعلته – رحمه الله – يانس الي وبقدرتي ولذلك عندما خرجت من البلاط مغضوبا علي سنة 1954 وعينت في الاذاعة ومن ثم المصرف الزراعي كان اذا جاء الى بغداد يطلبني تلفونيا لمقابلته.
ومن المواقف التي اذكرها الموقف الآتي:
كان احد كبار موظفي وزارة الخارجية وهو المرحوم (محي المميز) على معرفة بالأمير زيد، فلما وصل الأخير الى بغداد اتصل بي الثاني وطلب موعدا لمقابلته ولما أخبرت الأمير بذلك قال، دعه يأتي غدا صباحا، فأخبرت الأستاذ المميز بالموعد وفي صباح اليوم الثاني حضر فعلا، واصطحبته إلى غرفة الأمير التي تعلو درجتين عن مستوى الممر المؤدي اليها ولما كنت اسير امام الأستاذ المميز وهو كما معلوم عنه قصير القامة وصعدت الدرجتين وفتحت باب الغرفة قال الأمير بصوت عال.
هلالي هذا بعد اعمي عيون؟
هنا انتبهت بانه يقصد الأستاذ المميز فقلت له بسرعة وعلى البديهة
لا سيدي لقد أرسلناه إلى المستشفى وسيجرون له عملية لعينيه هذا اليوم، ها هو الأستاذ المميز يا سيدي!
فلما سمع الامير زيد كلامي بهت ثم شاهد الأستاذ المميز فقام له مرحبا وادخله الغرفة اما أنا فقد عدت إلى غرفتي وانا اضحك على الورطة التي وقع فيها الأمير بسبب عدم رؤيته الأستاذ المميز.
ولم اكد اجلس في مكاني داخل غرفتي حتى رن جرس التلفون فلما رفعت السماعة سمعت صور الامير زيد يقول:
هلالي تعال بالعجل.
فذهبت إليه مسرعا وأنا لا ادري ما يريد فلما دخلت عليه وجدته واقفا بانتظاري والأستاذ المميز غير موجود فلما راني تبسم بوجهي وقال لي:
هلالي تعال جر أذني..!
فلما سمعت منه ذلك.. قلت له! العفو سيدي.
فقال لي كيف لاتجر اذني بعد ما خلصتني من الورطة التي وقعت فيها؟ ثم من اين جئت بقصة المستشغى التي ابعدت بها الشكوك عن كون الاستاذ المميز هو المقصود.
قلت.! انها والله يا سيدي تقدير موقف وقد اخترعت هذه القصة لاخلصك من ورطتك عندها قال لي.
تعال هلالي اقص عليك حادثة وقعت لي مع موظف تشريفات سابق مؤداها.
ان لي صديقا من اهل الكرخ كان يزورني صباح كل يوم عندما اتي الى بغداد وهذا الصديق لاياتي الا بعد ان يضرب الباجة عند ابن طوبان ولا يلذ له اكل الباجة إلا مع الثوم ولذلك عندما يجلس يحدثني كانت رائحة الثوم تملا الغرفة. وكنت اتضايق جدا من هذه الرائحة ولكني لا استطيع ان انبه هذا الصديق الى ذلك فكنت اتحمل تلك الرائحة على مضض وأمري الى الله.
وحدث ذات يوم ان هذا الصديق تأخر عن المجيء لزيارتي في الصباح الباكر فحمدت الله اني سوف اتخلص من رائحة الثوم ذلك اليوم وفي حوالي الساعة العاشرة جاءني موظف التشريفات وبيده اسماء طالبي مقابلتي فلما قرأتها وجدت اسم صاحبي على راسها وهنا قلت لذلك الموظف اسمع ان صديقي هذا اراحني اليوم من رائحة الثوم لذا ان الذي اريده منك ان تعتذر منه قائلا بانني مشغول اليوم ومستعد لمقابلتك غدا واصرفه بالحسنى.
وهكذا ذهب الموظف وانا لا ادري كيف تصرف مع صديقي ثم سافرت الى لندن. ولما عدت الى بغداد لتولي النيابة عن الوصي ثانية وباشرت عملي لاحظت ان صديقي الكرخي لم يأت لزيارتي كما هي عادته فاستغربت ولذلك اتصلت بالسيد محمود صبحي الدفتري الذي يعرفه وسالت عنه قال لي.!
ان صاحبك يا سيدي زعلان منك.
قلت لماذا؟ اجاب
انك تقول عنه ان رائحته وسخة اذ ياكل الثوم وياتي لينفخ هذه الرائحة الكريهة في وجهي. فلما سمعت هذا الكلام استغربت وقلت له من قال له ذلك ؟ قال:
انه موظف التشريفات الذي شرح له سبب اعتذارك عن مقابلته قائلا له: لماذا تاكل الثوم وتاتي لمقابلة الامير اما تدري انه يكره رائحة الثوم. ولهذا اعتبر صديقك هذا الكلام صادرا عنك وزعل عليك.
فماذا تقول يا هلالي بهذا الموظف المحترم الذي اكدت عليه بضرورة الاعتذار بلطف.
اما انت اليوم فقد خلصتني من ورطة لايمكن تلافيها لولا ها اخترعته من قصة المستشفى افليس من حقي يا هلالي ان اقول لك (تعال جر اذني).
قلت هذا لطف منك يا سيدي.
قال: شكرا لك على كل حال وبارك الله فيك.
ان الكلام بتسع للكثير من حق المرحوم (ابي علي) ولكننا اردنا في هذه المناسبة العزيزة التذكير به وبمناقبه وتسجيل محاسنه حتى لا يسدل الزمن ستاره عليه وحتى يبقى فخرا لنا وقدوة.